لا يمكنني الطلب من جلالة السلطان قابوس، الانتقال الفوري إلى الديمقراطية الكاملة، فهو يقوم على تجربة خاصة لها ظروفها وملابساتها الكثيرة.
قابوس قصّ الحق من نفسه من زمان، وقام بحركة تولى فيها السلطة وأسماها النهضة، وعندما نقول الكلمة، فإن معناها يتجلى صادقا لكل من يعرف سلطنة عمان، إذ لما جاء الرجل إلى موقعه، كان في بلاده طريق واحد معبد من مسار واحد ضيق، يجاور كتف الجبل الصخري من مطرح إلى مسقط، بطول كيلو مترات قليلة..
كانت هناك مدرسة ابتدائية واحدة أو شيء من هذا..وكانت أبواب مسقط تغلق مساء، وكان الناس يعانون من إدخال أي مظهر من مظاهر الحداثة، فحتى ارتداء النظارات الطبية، كان يحتاج ترخيصا وإذن!..
ولن أزيد..
تولى قابوس السلطة، فوجد أن هناك ثورة تعبث ببلاده، وبينما قدّم في خطابه الأول، وعدا صريحا بالنهوض والبناء وتغيير وجه البلاد، كان الماركسيون والثوريون، وغوغاء الثورات العربية، يتسلون بمحاولة ضم بلاده إلى الكتلة الشيوعية، مدد يأتي به الفلسطينيون اليساريون، واليمنيون الجنوبيون، أصحاب تجربة تأميم (الطناجر) وأدوات الصيد البسيطة، وأحطمة الفقر، ونظريات البؤس البالية..والعجيب أنهم صاروا فيما بعد لاجئون في بلاد قابوس!..
تلفت السلطان حواليه فطلب النجدة من الدول العربية فلم تفعل..لا جمال عبد الناصر الذي كان يلعق بعد مرارة تدخله في اليمن، ولا من بعده، ولا سورية أو العراق..
رفع خط الهاتف على ملك الملوك الشاه آريا مهر، محمد رضا بهلوي، ثم أغلق السماعة فإذا بالقوات الإيرانية تأتيه بالنجدة، مع أن عمان في التاريخ هي من طردت الفرس من البصرة عبر الكويت!..
لكنها السياسة والتحولات، وفن الممكن، ومبدأ أنه ما من عدو دائم أو صديق دائم، إنما لا دوام لغير وجه الله الديان..
أنجز الرجل المهمة في وقت يسير، فالتفت فورا إلى مسيرة بناء غير مشهودة، تستلهم تاريخا مجيدا قل نظيره، كان يحاكي في عصره الذهبي امبراطوريات البرتغال وإسبانيا وبريطانيا، فعمان أول بلد عربي اعترف بالولايات المتحدة وتبادل معها السفارات..وعمان مملكة ممتدة من شرقي أفريقية إلى (لنجة) على الشاطئ الآخر للخليج وبجناحين بين زنجبار ومسقط، وأسطول يجوب بمدافعه أعالي البحار!..
جلب قابوس علامات على أناقة الحكم وهيبته من هذا الزمن الغابر، ومزج التنمية بالذوق الرفيع، فلكأنك وأنت تتبع مشاريعه وبناه التحتية، تلحظ من يرتب صالون منزل أو حديقة غناء بالزهور..يبات شعبه على سيمفونيات خالدة، ويصحو على ضبط وربط ونظام وحب للعمل، رفع من مقام العمل المهني، بينما شعوبنا تتكدس على الكراسي الهزازة، وتعشق الأختام والتواقيع المزركشة..
وبإمكانات بسيطة لا تتعدى النصف مليون برميل من النفط يوميا، كمعدل شبه دائم منذ توليه الحكم، أوصل قابوس الكهرباء إلى كل بيت، وحتى في المناطق النائية عند رؤوس الجبال، كانت طائرات الهيلوكبتر تنقل التلاميذ إلى فصولهم، وبين هذا وذاك، مدت الطرق الفسيحة التي لا تحتاج إلى الصيانة لدقة المواصفات، إلا كل ربع قرن..مستشفيات في كل مكان، مستوصفات، مدارس، بنى تحتية مميزة..
وفي فضاء تجربته لم يستعد قابوس أحدا من الجوار، لم يخض حربا، لم يدخل في محور، وكنت أعجب من مهابة الرجل وأنا أتلفت حولي في المناسبات، فأجد المصريين في ذروة مقاطعة كامب ديفيد، وفلسطينيون من حماس ومن فتح، وصداميون ومعارضون عراقيون وسوريون ويمانيون وكويتيون ومغتربون عربا من كل مشرب ولون..
مد يده إلى الجميع، وفي الإطار الداخلي، حرص على معالجات يتعلم منها الحكام في كيفية إطفاء القبلية والطائفية، وتجهيز المجتمع إلى مرحلة الديمقراطية من دون الوقوع في أزقة التمثيل الفئوي..وسأضرب مثالا واحدا فقط على الحسم في قضية التمذهب والشطط الفقهي لبعض المجتهدين، فقد وقع خلاف بين سنة وأباضية كان مسرحه مسجدا صغيرا بينهم، أتدرون ما الذي فعله السلطان؟!..لقد هدم المسجد!..
أو لم يهدم النبي مسجد (ضرار)..
لقد وقعت أخطاء في التجربة العمانية ولا شك، وقد كانت بالنتيجة تراكمات تجربة غالبها الوقت وتسابقت مع الزمن، وهناك فقر، وهناك حزمة من الفساد المكشوف لتضخم ثروات البعض، من دون أن يقابلوا بالجميل وطنا أعطاهم فما بخل علهم..وهناك معالم بهرجة سلطة لا بد من إبقاء هيبتها، لكن ضروري تجريد ديكوراتها ومشهدها العام من بذخ سيكون مثمرا أكثر لصالح إنجاد الفقراء وفك عوزهم..
ولقد أخذ السلطان سلسلة خطوات مباشرة وفورية، وهناك يقظة الآن تؤشر على أماكن الخلل تعمل على محاصرتها، وهناك أنفاس جديدة تدب في العمل الحكومي والعام، ويوجد تحرك واضح نحو ديمقراطية تمثيلية، وإدارات محلية منتخبة، يتم تطعيمها بالكفاءة لأننا نعلم جميعا أن النظام الانتخابي العربي سينحاز للمعيار القبلي والوجاهي أكثر منه لأوزان الكفاءة..
لقد بدأ السلطان خطوات سبق فيها بعض المطالبات، ولدي الثقة أن درجة المحبة والاحترام الأبوية التي يتمتع بها رجل جليل هذا مقامه، ستجعل الأمور تأخذ مسارها الصحيح، لكن الوصية هنا واجبة في عدم الإبطاء..والمباشرة دونما تردد..
ومع الخوض في عموميات السياسة والديمقراطية، نوصي بنظم تحول دون الارتزاق من لقمة عيش المواطن، فلتدخل الدولة كمضارب بسعر الكلفة على المواد الأساسية، والصحية، والتعليمية، ولا بأس من إقامة نموذج للتجربة التعاونية بحاكي ما هو موجود في الكويت وغيرها..ولا بد من استغلال موقع يطل على المحيط وفضاء آسيا الثري، وفتح أبواب التعليم الجامعي الخاص المرشّد من الدولة، وعمان تستحق حصد فوائد موقع استراتيجي يتجاور مع ثلاث قارات جيوسياسية هي الأفريقية والآسيانية، والخليجية العربية.
النصائح من قلب محب..
الله وحده ولي التوفيق والسداد..