عن ثمانين عامًا رحل السلطان قابوس ثامن سلاطين آل سعيد رئيس مجلس الوزراء والقائد الأعلى للقوات المسلحة، بعد أن قاد بلاده من مرحلة اضطرابات إلى دولة هادئة في إقليم ملتهب. وووري جثمان الراحل الثرى أمس في مقبرة الأسرة المالكة في مسقط بحضور السلطان الجديد هيثم بن طارق بن تيمور آل سعيد. حظى السلطان قابوس بمحبة كبيرة لدى شعبه، فهو مؤسس السلطنة الحديثة، وباني الصف الوطني الواحد، ومرسي ركائزه، وقائد مسيرة النهضة المعاصرة في عمان، عبر مراحل وخطط طموحة، كانت ركيزتها المواطن العماني، باعتباره مشاركاً وفاعلاً في وضع لبنات هذه التنمية. وكان قابوس يرى أن الأصالة والتقدم وجهان لعملة واحدة، وخطّان متوازيان يسيران معاً. ولد السلطان قابوس بن سعيد في الثامن عشر من نوفمبر عام 1940 بمدينة صلالة في محافظة ظفار، وتلقى تعليم اللغة العربية والمبادئ الدينية على أيدي أساتذة متخصصين اختارهم والده، كما درس المرحلة الابتدائية في المدرسة السعيدية في صلالة. في سبتمبر 1958 أرسله والده السلطان سعيد بن تيمور إلى إنكلترا، حيث واصل تعليمه لمدة عامين في مؤسسة تعليمية خاصة هي مدرسة «سافوك» الشهيرة. ثم التحق عام 1960 بأكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية كضابط مرشح، حيث أمضى فيها عامين، درس خـلالها العلوم العسكرية وتلقى فنون الجندية، وتخرج فيها برتبة ملازم ثانٍ، ثم انضم إلى إحدى الكتائب البريطانية العاملة آنذاك في ألمانيا الغربية – قبل الوحدة الألمانية – حيث أمضى ستة أشهر متدرباً في القيادة العسكرية. بعد أن أتم تلك الفترة المهمة، التي شكلت خبراته العسكرية، عاد إلى بريطانيا حيث درس نظم الحكم المحلي، وأكمل دورات تخصصية في شؤون الإدارة وتنظيم الدولة. ثم هيأ له والده الفرصة التي شكلت جزءاً من اتجاهه بعد ذلك، فقام الابن الوحيد لسعيد بن تيمور بجولة حول العالم استغرقت ثلاثة أشهر، زار خلالها العديد من دول العالم، عاد بعدها إلى البلاد عام 1964 حيث أقام في مدينة صلالة. دراسة الإسلام على امتداد السنوات الست التالية التي تلت عودته، تعمّق السلطان قابوس في دراسة الدين الإسلامي، وكل ما يتصل بتاريخ عُمان وحضارتها، دولة وشعباً، على مر العصور. وأشار في أحد أحاديثه إلى أن إصرار والده على دراسة الدين الإسلامي وتاريخ عمان وثقافتها كان لها الأثر العظيم في توسيع مداركه ووعيه بمسؤولياته تجاه شعبه العماني والإنسانية عموماً. كما أنه استفاد كثيراً من التعليم الغربي، الذي تلقاه وخضع لحياة الجندية ولنظام العسكرية في بريطانيا، ثم كانت لديه الفرصة في السنوات التي تلت عودته إلى صلالة لقراءة الكثير من الأفكار السياسية والفلسفية للعديد من المفكرين الذين شكلوا فكر العالم. في 23 يوليو عام 1970تسلّم السطان قابوس مقاليد الحكم مطلقاً مرحلة تحديث السلطنة، بعد أن كان قد اصطدم منذ عام 1964 بسياسة متشددة لأي تحديث، فشرع قابوس في اتخاذ الخطوات التي من شأنها وضع نظام أساسي للدولة، وكذلك إعمار السلطنة، مستعيناً بمساعدات وخبرات خارجية، ومن ثم الاستعانة بعائدات النفط العماني. انتهج الحياد في السياسة الخارجية، وسعى للصداقة مع الجميع. حيث استدعى الدبلوماسيين المحليين والعمانيين الذين كانوا يقيمون في المنفى للعودة والمساهمة في اختيار حكومة تطوير البلاد التي كانت تفتقد للطرق والمدارس والمستشفيات.
فلسفة استثنائية
أرسى السلطان الراحل فلسفة لشعبه، خلاصتها أن الطريقة المثلى التي تتَّبعها بوصفك مواطناً عُمانياً هي أن تظلَّ ودُوداً مع الجميع، فاتسمت مسقط بالبساطة والهدوء والسكون، ووصف المجتمع العُماني بالمسالم تماماً. وساعدت ثقافة قابوس العالية في تعميق علاقات السلطنة بالدول العربية والأجنبية، وإنهاء عزلتها، اذ انتهج السلطان نوعاً من الحياد في القضايا الإقليمية والدولية، ولعبت مسقط في عهده دور المحايد، وتمكَّنت عُمان من البقاء في منأى عن الصراعات والأزمات المحيطة بها، فبرزت السلطنة باعتبارها وسيطاً هادئاً للحوار بعيداً عن الإعلام، وبوصفها دولة صديقة للعديد من الأطراف المتخاصمة فكانت ترفض الانحياز إلى أي طرف، وتحاول دائماً أن تمسك العصا من الوسط. كما كان السلطان قابوس بن سعيد من مؤسسي مجلس التعاون الخليجي عام 1981، فكانت السلطنة في عهده قوة ناعمة خليجية تركز على شؤونها الداخلية، ولم تنخرط في الأزمة الخليجية الحالية، ولم يسجل تاريخها حالة واحدة لمحاولات التدخل في شؤون الدول الأخرى رغم ارتباطها بحدود مشتركة مع كل من اليمن والسعودية والإمارات. وعلى العكس سعت السلطنة إلى تهدئة الصراع المستمر في اليمن، وتوسّطت كثيراً بين الحوثيين والتحالف الذي تقوده السعودية، وقادت جولات حوار بين اليمنيين، وحتى في الصراع الغربي الإيراني دفع الحياد الايجابي السلطنة لقيادة وساطة بين القوى الغربية وايران، وسمحت علاقتُها الوثيقة مع واشنطن وطهران بأن تستضيف مسقط أول اللقاءات السرية المنعقدة بين المسؤولين الأميركيين والإيرانيين، في مناقشات أدَّت في نهاية المطاف إلى صفقة إيران النووية عام 2015. ولغاية اليوم لا تزال تلعب دور الإطفائي ورسول السلام بين البلدين، إضافة إلى دورها في ملف الأزمة الفلسطينية ـ الإسرائيلية عقب استقبال قابوس رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو في مسقط نهاية أكتوبر 2018.
العصرنة والتقاليد
اهتم السلطان قابوس بدفع عمان إلى حالة متقدمة من المعاصرة مع الإبقاء على أصالتها التقليدية، بحيث لا تفقد هويتها، وفي إطار ذلك، اهتم بالثقافة، وأصبح لدى السلطنة أوركسترا سلطانية من عازفين وعازفات على مستوى عالٍ من التدريب. كما رعت مؤسسات الدولة مشروعاً ضخماً لتوثيق تاريخ عُمان منذ فجر التاريخ، ومشاريع ثقافية أخرى كثيرة. وللسلطان الراحل اهتمامات واسعة بالدين واللغة والأدب والتاريخ والفلك وشؤون البيئة، حيث يظهر ذلك جلياً في الدعم الكبير والمستمر للعديد من المشروعات الثقافية، وبشكل شخصي، محلياً وعربياً ودولياً، سواء من خلال منظمة اليونسكو أم غيرها من المنظمات الإقليمية والعالمية. ومن أبرز هذه المشروعات على سبيل المثال لا الحصر، موسوعة السلطان قابوس للأسماء العربية، ودعم مشروعات تحفيظ القرآن، سواء في السلطنة أو في عدد من الدول العربية، وكذلك بعض مشروعات جامعة الأزهر، وجامعة الخليج، وعدد من الجامعات والمراكز العلمية العربية والدولية، فضلاً عن «جائزة السلطان قابوس لصون البيئة» التي تقدم كل عامين من خلال منظمة اليونسكو، ودعم مشروع دراسة طريق الحرير والنمر العربي والمها العربي.
هوايات عدة
وعن هواياته يتحدث السلطان فيقول إنه وضع على ظهر حصان وهو في الرابعة من عمره، ومنذ ذلك الحين وهو يحب ركوب الخيل، ولهذا أنشأ الإسطبلات التي تعنى بتربية وإكثار الخيول العمانية الأصيلة، وافتتح مدارس الفروسية التي تضم بين تلاميذها البنين والبنات. كما أن الرماية أيضاً من الهوايات المحببة للسلطان قابوس، كونه تدرب عسكرياً، ويؤكد أن هذه الهواية تعد جزءاً مهماً لكل من يهتم بالنشاط العسكري وعاش في مجتمع كالمجتمع العُماني الذي يعتز بكونه يستطيع حمل السلاح عند الضرورة، كما يحب تجربة كل ما هو جديد من أسلحة في القوات المسلحة العمانية. وأيضاً من الهوايات المحببة للسلطان قابوس علم الفلك، ومراقبة الكواكب، حيث يملك مرصداً صغيراً، وعندما تكون الفرصة سانحة في الليالي المناسبة حسب النشرات الفلكية يقضي بعض الوقت في مراقبة هذه الكواكب.
أدان الإرهاب مبكراً وأدانت السلطنة الإرهاب بكل صنوفه وأشكاله منذ وقت مبكر، وقبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 بسنوات عدة، حيث أكد السلطان الراحل أن «الإرهاب اعتداء على السلام الذي تنشده البشرية». وكان قابوس يرد دائماً «نحن دائماً إلى جانب الحق والعدالة والصداقة والسلام، وندعو الى التعايش السلمي بين الأمم وإلى التفاهم بين الحضارات والى استئصال أسباب الكراهية والضغينة التي تتولد في نفوس من يعانون من الظلم وعدم المساواة، ففي ذلك الخير كل الخير للبشرية جمعاء». مدرسة جديدة في العلاقات الدولية عمل السلطان قابوس على مدرسة جديدة في العلاقات الدولية المعاصرة مبنية على مبدأ واحد يذهب إلى أن العالم يسير نحو التعاون المتعدد الأطراف، وأن الأطر الجغرافية ستزول قريباً. وقال السلطان في حديث إلى مجلة «ميديل إيست بوليسي» في نوفمبر 1995 ان «العالم يتضاءل وينكمش، وانا واثق تماما أن جميع البلدان يجب أن تسير وفق هذه القاعدة، وتحاول ان تفهم بعضها بعضاً، وتتعاون في ما بينها، وتعمل جنباً إلى جنب لخير البشرية جمعاء. وقد لوحظت في السنوات الاخيرة بوادر واعدة تدل على ان النزاعات بين الدول صارت تعتبر من الحماقات المطبقة وأن الخلافات بين البلدان يجب ان تحل بالمفاوضات وليس بالحرب». الجوائز حصل السلطان قابوس على عدد من الجوائز أبرزها السلام الدولية عام 1998 تقديرًا لمساهمته في الممارسات السياسية المعاصرة ودوره في إحلال السلام والاستقرار في أكثر دول العالم بلبلة واضطرابا، كما حاز وسام الملك عبدالعزيز آل سعود عام 1971، استحقاق الجمهورية الإيطالية عام 1974، قلادة النيل العظمى المصرية عام 1976، وسام جواهر لال نهرو للتفاهم الدولي عام 2004، وسام أسد هولندا عام 2012، وسام الاستقلال القطري. «أبذل حياتي من أجله» في 18 فبراير 2011 نظمت مجموعة من المدونين العمانيين مسيرة سلمية شارك فيها بعض النساء، كما شهدت ولاية صحار شمال العاصمة تظاهرات تزامنت مع موجة الربيع العربي، وفي رد فعله إزاء هذه التطورات، قرر قابوس لقاء المحتجين والاستماع إلى مطالبهم، وأصدر قرارا بتوفير خمسين ألف فرصة عمل للمواطنين، فعادت عُمان إلى هدوئها. ويروي مراسل «بي بي سي» في مسقط أن خيار تنحية السلطان قابوس لم يكن أبدا خيارا مطروحا حتى في أحلك الظروف التي عاشها الشعب العُماني. ويقول «تبادلتُ الحديث مع إحدى الشابات وهي، غادة الحارثي، خلال واحدة من هذه المسيرات، وسألتها هل يمكن أن تصل الأمور بالعُمانيين لما وصلت إليه مع التونسيين والمصريين وانتفاضهم على الحكام، فردت مستنكرة ومستهجنة «يا إلهي، لا! إنها إهانة لنا! (..) زعيمنا محبوب وليس فاسدا، وأنا مستعدة لبذل حياتي من أجله».
https://alqabas.com/article/5742141