بعد مسيرة حافلة بالعطاء امتدت لخمسة عقود، ودع العالم المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور ـ رحمه الله ـ بعد حياة مليئة بالإنجازات. ترجل القائد والسلطان العظيم والأب الكريم، ولكن ستبقى مدرسته السلطانية ليتعلم منها الجميع في كل قضايا الحياة. ورغم جلل المصاب وفداحة الخطب لا نقول إلا ما يرضي ربنا جل وعلا، فلله تعالى ما أخذ، ولله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى.
قامة سياسية وتاريخية تترجل، وتتألم برحيله قلوب الجميع في الداخل والخارج، فمواقفه التاريخية في خدمة شعبه ووطنه، وأمته حتى آخر يوم من حياته، رحل عنا ولكنه سيبقى في قلوب أبناء عمان الأوفياء الصغار والكبار، سيبقى خالدا وسراجا منيرا نقتدي به ونمشي على خطاه.
ونعاهد السلطان الراحل العظيم بأننا سنصون الأمانة ونحافظ على مكتسبات الوطن وما بناه خلال 50 عاما من عمر النهضة المباركة على مختلف الأصعدة. إرث أصيل وتاريخ تليد، وسيرة ساطعة وناصعة البياض، لم تبطش ولم تغدر ولم تتلوث بالدماء، بل أسس دولة عصرية ودولة مؤسسات وآخرها تدشين متحف عمان عبر الزمان ليبقى جامعا وشامخا ونبراسا للأجيال القادمة حتى قيام الساعة.
ما أعظمك من أب وقائد، رحلت والسماء تتلبد بالغيوم وتهطل الأمطار في جوء شتائي، ليمر ذلك اليوم الحزين على الوطن والعالم أجمع بسلاسة وهدوء في التشيع ونقل السلطة، فيا سيدي نم قرير العين في قبرك عند مليك مقتدر، فكل الوطن على قلب ونبض واحد من مسندم إلى ظفار في الدعاء والصلاة لكم، وبالأمس هبت جموع الوطن من شيوخ وأعيان ورشداء ومواطنين في تقديم العزاء في فقيد الوطن الكبير، أحسن الله إليك كما أحسنت إلينا. وعلى الدرب وعلى خطاكم وبوصيتكم سائرون، فالأساس قوي وسيظل قويا ومتحدا وصلبا كما هي عمان وأهلها الأوفياء.
يا أهل عمان، تذكروا ما أوصاكم به الراحل السلطان قابوس، أن عمان أمانة في أعناقكم فكونوا يدا واحدة في السراء والضراء متلاحمين متحدين خلف قيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ الذي تسلم الأمانة فنعم الاختيار والتنصيب وعلى نهج الراحل السلطان قابوس سيسير كما أكده جلالته في خطابه: “إن عزاءنا الوحيد وخير ما نخلد به إنجازاته هو السير على نهجه القويم والتأسي بخطاه النيرة التي خطاها بثبات وعزم إلى المستقبل والحفاظ على ما أنجزه والبناء عليه هذا ما نحن عازمون بإذن الله وعونه وتوفيقه السير فيه والبناء عليه لترقى عُمان إلى المكانة المرموقة التي أرادها لها وسهر على تحقيقها فكتب الله له النجاح والتوفيق”.
حقا يا سيدي السلطان هيثم إن الأمانة الملقاة على عاتقكم عظيمة والمسؤوليات جسيمة، ولكننا نثق بأنكم قادرون على حمل هذه الأمانة، وكل أبناء عمان الأوفياء معكم من أجل رفعة هذا البلد وإعلاء شأنه، فسر بنا للأمام في أمن وأمان ورخاء ونماء، فكلنا سائرون خلفكم على النهج القويم وخلف قيادتكم، وإكمال ما أراد الراحل تحقيقه لهذا الشعب العظيم.
سيظل السلطان قابوس معنا في قلوبنا وعقولنا، فأنتم جعلتمونا سعداء بفضل من الله ونعمائه ومنكم، وأصبحت عمان دولة مؤسسات وإنجازات عظيمة، لذا سيتذكر الجميع في الداخل والخارج ما صنعته من أجل هذا الوطن الغالي من إنجازات، وما صنعه لهذا العالم من أعمال ومواقف خالدة في التسامح والسلام، فقابوس قصة حب تتجاوز كل النياشين والمقالات والكتب.
لا خوف على عمان اليوم، فهي في أيدٍ أمينة وسلطان بعيد النظر عرف عنه الهدوء والسكينة، ومن مدرسة السلطان قابوس تعلم وتأسس وتخرج منها، ولديه ما يهيئ له مسؤولية الحكم بعد هذا التأسيس القوي، وكان اهتمامه الأول الاقتراب من الشباب وجيل النهضة فقد تولى مناصب رياضية، ثم جاءت المرحلة الثانية في ممارسة الدبلوماسية والتعامل مع أهل السياسة فتخرج منها شابا مطلعا وسياسيا واعيا لينتقل للمرحلة الثالثة ليشرف على وزارة سيادية مهمة في تاريخ الوطن، ولينهل من كتب وتراث الآباء والأجداد رحيق الماضي والحاضر، ثم يتسلم ويتولى أهم ملف في هذه المرحلة، وهو ملف النهضة والبناء والتغيير “رؤية عمان 2040″ ليكمل المسيرة بكل ثقة واقتدار، إنها مدرسة السلطان قابوس رحمه الله، فنعم الاختيار ونعم السلطان الجديد.
فجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور (رحمه الله) قائد لا يمكن لمقال أو كتاب أن يوفيه حقه وأن يعدد ما أنجزه وما بناه، إن الكلمات لتعجز والعبارات لتقصر، فهو الوطن بأكمله والأب الحنون لشعبه وأمته، ولم لا؟ فقد استنَّ سنة حميدة في حكمه، وهي التحاور مع أبناء شعبه، فكانت جولاته السامية والاستماع إلى أصوات شعبه من دون وسيط وفي الهواء الطلق، لذا سيبقى في تاريخ عمان الحديثة صورة مخطوطة بحبر من ذهب. وفي هذا المصاب الجلل لا أجد الكلمات بل أفقدها في رثاء زعيم بقدر السلطان قابوس ووصفه حتى لا أظلم نفسي وأظلم هذا الوطن، وأيضا لا أستطيع إعطاء حقه وما قدمه لهذا الشعب والوطن الغالي والأمة العربية والإسلامية والعالم أجمع من إنجازات وتضحيات ودروس وعبر عظيمة ومؤثرة ومواقف إنسانية، وتسامح وسلام، وحل مشاكل وأزمات وقضايا، وساهم في وقف حروب وتفكيك أزمات وحلها، وإطلاق سراح أسرى وعلاج مرضى وكفالة أيتام، وبناء مساجد في عمان وخارجها يفوق عددها عمره وشبابه، كما استطاع بحكمته وسياسته وحنكته أن يضع عمان في مكانة مرموقة بين الدول في جميع المجالات.
فلا يمكن لكتاب التاريخ والباحثين وأصحاب الأقلام أن ينسوا أو يتجاهلوا قائدا بهذه الصفات القيادية الفريدة، فرحيله تألم منه الملايين، لأنهم فقدوا حاكما من طراز نادر وفريد في هذا العصر، قائدا حكيما، تجمع على أرض وطنه في حياته وفي العزاء برحيله الفرقاء والخصماء والأحبة والأصدقاء عرب وعجم وأجانب، وحقّق لبلده نهضة شاملة، إذ استطاع توطيد جسور المحبة والسلام عربيا وإسلاميا وإقليميا وعالميا، وكان أبا وأخا وصديقا للجميع في تعامله فالكل عنده سواسية، ولم يتغير أو يتزعزع عن مبادئه في أي قضية داخلية أو خارجية، فكان يتسم بالمبادئ الثابتة التي لا تتضعضع.
إن رسوخ النظام السياسي الذي كرّسه جلالة السلطان قابوس، وأرسى دعائمه على مدى خمسين عاما تجسد في أنه جعل من انتقال السلطة أمرًا سلسا وسهلا. فانتقل السلطان الراحل إلى مثواه الأخير، وترك كل شيء للدولة، ونفذت وصيته في هدوء وسكينة، فنم قريرا يا حبيب الشعب في قبرك، وستبقى سيرتك في أعظم صفحات التاريخ الإنساني خالدة ملهمة للأبد. وعلى نهجكم الحكيم ستسير السلطنة وأبناؤها في أمن ونماء، وستكون عمان أكثر إشراقا وتقدما ونهضة في ظل القيادة الجديدة لجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم.
فالكبار والقادة العظام في كل مجال لا يرحلون عن الدنيا، مآثرهم وأعمالهم باقية ليوم الساعة. لذا سيبقى العاشر من يناير 2020، دوما يوما حزينا لأهل عمان ومحبيها، لقد ذهب أعز الرجال، كما وصفه سيدي السلطان هيثم بن طارق بن تيمور، اللهم ارحمه واغفر له بقدر ما أوجعنا غيابه، بعدما توسد جسده الطاهر الثرى، ومهما حاولت رثاءك يا سيدي ووالدي قابوس لن أستطيع، ولكنني وكل أبناء عمان الأوفياء سيدعون لك في كل لحظة، ومع ذلك لن نوفيك بعض حقك. فيا رب املأ قبره بالرضا والنور والفسحة والسرور، وارض عنه يا رب واجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأنزله منازل الصالحين واجعل مثواه في جنات النعيم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وكمال قال أمير الإنسانية والدبلوسية الحكيم الصادق الصدوق أمير الكويت حفظه الله “قابوس ما مات .. وأنتم موجودين” حقا فأنتم يا جلالة السلطان هيثم نعم الخلف لخير سلف، فأيدينا بأيديكم ونحن معكم.. والله من وراء القصد.
د. أحمد بن سالم باتميرا