نواصل سلسلة قراءتنا للأبعاد الاجتماعية لخطابات جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظّم – حفظه الله ورعاه- حيث نخصص هذا المقال للخطاب الذي ألقاه بمناسبة بداية الفترة الثانية للمجلس الاستشاري للدولة 16 /11/ 1983م والذي جاء فيه: “لقد بذل المجلس ومنذ افتتاحه وعلى مدى عامين نشاطا ملموسا في تناوله لمجالات اقتصادية واجتماعية عديدة، وأظهر حرصا على التوصل إلى مقترحات مفيدة تساهم في دعم الجهود الانمائية القائمة في كل من هذه المجالات، وتقديرا منا لهذا النشاط ولأهمية التعاون بين القطاعين الحكومي والأهلي، فقد أصدرنا أوامرنا إلى الوزراء المعنيين للإدلاء ببياناتهم في دورات انعقاد المجلس، وإيضاح طبيعة الجهود التي تقوم بها وزاراتهم والتي تعتزم القيام بها في إطار خططنا الانمائية لتبادل الآراء حولها من خلال نقاش موضوعي هادف يخدم المصلحة العامة ويساعد على اقتراح الحلول الواقعية لأية مشاكل أو معوقات تواجه العمل القائم في مختلف ميادين التنمية، ومن خلال هذا كله واستنادا إلى الدراسات التي أجراها المجلس لبعض القطاعات، أتيح له أن يتوصل إلى مقترحات تضمنت كثيرا من التوصيات الايجابية التي اعتمدناها وأعطينا توجيهاتنا للجهات الحكومية لدراسة أنسب الوسائل لتنفيذها”
تضيء هذه الفقرة السامية من خطاب عاهل البلاد وبعد عقد ونيف من تاريخ النهضة المباركة شموسا تبعث بماهية دولة المؤسسات، وتغرس في سجايا المواطن والمسؤول القيمة النوعية للوطن والشراكة المجتمعية بينهما في سبيل التنمية المستدامة وخلق بيئة حاضنة للإنجاز والتقييم والتغذية الراجعة، فنجد أن الخطاب يوحي للمتلقي بإشارة المتابعة لما تم وضعه كخارطة طريق في الخطاب الذي ألقي في دورة الانعقاد الأول للمجلس الاستشاري 1981 وهو ما يدل على الحرص النافذ نحو التغيير والتطوير البنّاء، ويؤكد على ذلك الصفة التقريرية بسن القوانين والأوامر العليا للمعنيين بإتاحة كل البيانات والمعلومات والإنجاز المنفذ والمتوقع أمام المجلس، وذلك يدل على الشراكة الحقيقية في صناعة القرار بين مؤسسات الدولة والمجالس البرلمانية التي ظلت في تطور مرحلي حتى يومنا هذا، أظف إلى أنه يبعث بروح الرأي والرأي الآخر نحو دراسة معيقات التنمية وإيجاد السُبل المثلى للحل على أن تكون واقعية بعيدة عن المثالية الكاذبة أو الانتقاص البائس، وهنا يمكننا أن نستمطر القيم الاجتماعية عبر نافذة التعاون والتكامل والشراكة المجتمعية والمؤسساتية في صناعة القرار وبناء جسر متين لتحقيق التنمية البشرية النوعية، أظف إلى أنه يكسر حاجز استصغار المجتمع وجعله مغيّبا عن البناء الوطني، فهو لا يتيح الفرصة لاستئثار المسؤول بالبلاد وحقوق العباد، بل يدفعه للإفصاح عن ما أتُمن به ومناقشته وتحليل ما جاء في تقاريره ورصده للإنجاز والخطط التنموية، وهذا يعزز القيمة الحقيقية للديمقراطية والمحاسبية في آن واحد، كما أنه يفتح الباب على مصارعيه للعقول المستنيرة من الباحثين والمفكرين وأصحاب الحكمة والرأي السديد في المساهمة نحو بناء عمان الحديثة.
“إننا إذ نشعر بالرضا إزاء الإيجابيات التي أبرزتها تجربة المجلس في العامين الماضيين، فإن ما اعتمدناه مع بداية الفترة الثانية من زيادة عدد الأعضاء الممثلين للقطاع الأهلي عما كان عليه الحال في الفترة الاولى واختيار أعضاء جدد، فضلا عما تم إقراره من زيادة أوجه التنسيق بين المجلس والحكومة، إنما يعبر عن رغبتنا في إعطاء مجال أوسع لمشاركة المواطنين في نشاط المجلس، وفيما يقدمه من رأي ومشورة، كما يعبر عن اهتمامنا بتطوير وتعميق التعاون القائم بين المجلس والحكومة، بما يمكنهما معا من الاضطلاع بمسؤولياتهما على نحو يعزز قدرتنا على تحقيق الأهداف المرجوة لمسيرة التنمية، وفي ضوء هذا كله فإننا نأمل أن يقوم مجلسكم في فترته الحالية بجهد أكبر يتناول مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية و يتدارسها بأسلوب عملي يراعي الأولويات، ويلائم بين قدراتنا وطموحاتنا، ويتلمس الاحتياجات الضرورية للمواطنين سواء فيما يتعلق بتوفير الخدمات لهم وتطوير أنشطتهم الإنتاجية أو فيما يتعلق بتذليل ما يكون لديهم من مشاكل أو صعوبات”
يسترسل الخطاب في سبر أغوار العمق الاجتماعي والثقافي لصناعة العدالة والمساواة على قدم وساق، فنجده يعزز من قيمة الشراكة بين المجتمع ومؤسسات الدولة في بناء مسار الحياة المصيرية، فهو يستهل هذه الفقرة بجانب تحفيزي متزن عبر الشعور بالارتياح من رأس هرم السلطة، وهو ما يدل على المتابعة الحثيثة لمدة تحقيق الأهداف السامية التي وضعت ضمن الخطتين الخمسيتين الأولى والثانية واللتان تطرقنا لهما في المقال السابق، ويشدد الخطاب السامي على مبدأ التنمية وتحقيق المستوى الآمن للعيش الرغيد لدى المواطنين، وضرورة رسم الاستراتيجية الوطنية التي تهتم بآلية الأهم فالمهم، إلا أننا نلحظ أن هذا الخطاب ومع بدايات النهضة المباركة يشير وبصورة قطعية وشديدة إلى ضرورة الاهتمام بحياة المواطن ومستوى معيشته، وهكذا لغة تشي بجزء كبير من الاستشعار الدفين والعميق في الفكر السامي الذي ينبض بألم العمانيين في سبيل لقمة العيش ونشر الدعوة قبل عهد النهضة المباركة، فالتاريخ يخبرنا أن العمانيين كانوا ولا زالوا نواخذة البحار الشاسعة، وهم صناديد الصحاري المُقفرة، ورجالات الجبال الوعرة عبر تاريخهم الظافر، فناضلوا وجاهدوا وعملوا لخلق عمان الطاهرة الماجدة، وهنا يبرز الحس الوطني والتاريخي في هذا الفقرة وكأن لسان حالها يقول: آن الأوان لهذا العماني أن يترجّل من غربته، فهي فقرة مليئة بالحس القومي والإنساني والحضاري.
“إنه وفي الوقت الذي نحرص فيه على تقوية اقتصادنا في مواجهة الأوضاع الاقتصادية العالمية السائدة، فإننا نحمد الله تعالى لما أسبغه على بلادنا من نعمة الاستقرار، ولما أودع أرضها من موارد وخيرات أتاحت لها الاستمرار في تنفيذ الأهداف الرئيسية للخطة الخمسية الثانية وفقا لسياسة اقتصادية واقعية أثبتت فعاليتها في إنجاز المشاريع الضرورية، ومع أن ذلك يزيد من شعورنا بالرضا ويقوي من عزيمتنا فإنه يلقي علينا جميعا بمسؤوليات أكبر تتطلب مزيدا من التعاون وتضافر الجهود للتقدم بمسيرتنا خطوات جديدة لتحقيق مستوى الحياة الأفضل لأبناء شعبنا”
يشكل الاقتصاد العمود الفقري للدولة الحديثة، فهو لغة التفاهم العالمي في وقتنا الراهن، وعلى ضوء ذلك نجد أن الخطاب لم يغفل هذا الجانب إطلاقا، بل جعله في سلم أولوياته وطموحاته القادمة، فالبلاد في تلك الظرفية الزمانية كانت لا تزال تخطوا خطواتها الأولى نحو بناء اقتصاد وطني حقيقي، إذ كانت البلاد غير مستقرة سياسيا واجتماعيا، مما خلق لها جوا اقتصاديا مترديا شكل خنجرا في خاصرة العدالة الاجتماعية بين الأفراد وسياسة الدولة، لذلك جاء هذا الخطاب ليضع النقاط على الحروف بضرورة خلق اقتصاد نوعي وكمي يمكن للبلاد أن تجعله ركيزة قوية نحو الانطلاق التنموي، ونلحظ أن الخطاب يشير إلى قيمة اجتماعية مهمة وهي بمثابة صمام الأمان للتنمية والتطور، فهو يشدد على قيمة الأمن والأمان والاستقرار والتي هي بمثابة همزة وصل حقيقية بين الحياة والعدم، فأينما وُجدت بيئة حاضنة للاستقرار وتبادل الثقة يمكن أن تُفرِّخ بوادر الحياة الكريمة والهانئة ويتحقق النموذج الإنساني الحقيقي بعيدا عن التسلطية والانتقام والتدمير وحفظ مقدرات الوطن البشرية والمادية على حد سواء، وفي ختام الفقرة نلحظ أن التركيز على الخطط التنموية المرحلية قائم وبصورة ثابتة مما يدل على الإرادة السياسية المباشرة نحو الخروج من عنق الزجاجة، ويختم الفقرة بالتأكيد مرار وتكرار على القيمة الحقيقية للإنسان العماني والذي هو عماد الوطن ثروته.
“إننا إذ نوليكم ثقتنا بما أسندناه إليكم من واجب تقديم المشورة في مختلف مجالات التنمية فإننا نأمل أن تتعاونوا على أدائه بكل الصدق والاخلاص وأن تقدموا إسهاما ملموسا يثري جهود التطور على أرضنا الطيبة، وأن تسترشدوا في أعمالكم بمبادئ ديننا الإسلامي الحنيف، وبالقيم والتقاليد التي توارثتها الأجيال من أبناء هذا البلد العريق وقدمت على هديها أمثلة بارزة للعطاء والتفاني في سبيل رفعته وإعلاء شأنه”
مرة أخرى يؤكد الخطاب السامي على ضرورة الشعور بالمسؤولية الوطنية للمسؤولين بأن يولوا اهتمامهم بما أُوكِل إليهم من أمانة تجاه وطنهم ومواطنيهم، على أن تكون هذه الثقة محل تكليف وليس تشريف، كما يدعوهم للتشبّث بالمبادئ السامية التي دعا لها الدين الحنيف ومنها قوله صلى الله عليه وسلم “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”، ولم ينسى الخطاب التأكيد على التقاليد والمُثل والعادات العمانية النبيلة التي ضربت موعدا خالدا مع التاريخ بما قدمته من إنجاز حضاري وثقافي وأخلاقي رفيع، وهنا يكمن التقدير العالي من المقام السامي بالعلم والعلماء ورجالات الوطن الخالدين الذين ضلوا مخلصين في تحقيق أهدافهم النبيلة برفع راية عمان خفاقة بين الأمم، لتضل شامخة سامية مهيبة مهما حاول الأقزام النيل منها أو التقليل من شأنها واستصغار مقامها.
بقلم/ سلطان بن خميس الخروصي