لا يحتاج المراقب للمشهد العماني كبير تدليل على منهج السياسة العمانية ورؤية حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم حفظه الله ورعاه في إطار فكر التسامح والتعايش بين بني الإنسانية بغض النظر عن أديانهم ومعتقداتهم ومذاهبهم.
هذا الفكر الذي جاء نتيجة عوامل عديدة ما بين الإرث الحضاري لعمان في علاقاتها ذات النسيج الكوني ومنذ وقت مبكر، وما اختطته الدولة العمانية الحديثة من تأسيسات واضحة تختص بمبادئ المساواة والعدالة وعدم التمييز بين الناس، والنظر إلى الإنسان بوصفه محور الحياة أينما كان.
وفي كلمة السلطنة أمام الامم المتحدة في سبتمبر الماضي أكدت على “إيمان قائد مسيرة النهضة العمانية مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم أبقاه الله – بأن الحياة قد خلقت للإنسان ذكورا وإناثا، وأن الحرية هي جوهر الحياة، وأن التعبير الحر والإيجابي هو بذرة الإبداع، وأن الإبداع هو وقود التطور”.
هذه المعاني لا تقال بهدف الترويج الإعلامي أو أنها مجرد رؤية غير حاضرة على أرض الواقع، وإنما حقيقة يعيشها كل من يقترب من عمان سواء كان مقيما أو زائرا أو مراقبا أو باحثا وغيرهم، حيث يطغى مشهد التسامح الذي أسس له جلالة السلطان على صورة الحياة في السلطنة، وأبرز معلم حضاري في قلب مسقط يدل على ذلك التواصل الصادق بين الإسلام والعصر الحديث، هو جامع السلطان قابوس الأكبر، الذي يعتبر جسرا حيّا لحوار الثقافات والتعايش الإنساني، حيث يزوره السياح من مختلف البلدان وتقام به المحاضرات لمفكرين من مختلف المذاهب والأديان.
وبالتالي فإن ما جاء به التقرير السنوي للحريات الدينية لعام 2010 الصادر مؤخرا عن وزارة الخارجية الأمريكية، من إشادة بالسلطنة وفكر صاحب الجلالة السلطان المعظم في إطار التسامح، هو تأكيد لمشهد قائم رسّخ لمبادئ الحوار والاعتدال والفكر الحر المنفتح.
وفي عام 2000 أكد جلالة القائد المفدى في محاضرته بجامعة السلطان قابوس على حرية الفكر وعدم مصادرته لأي سبب كان مؤكدا جلالته إن مصادرة الفكر من أكبر الكبائر، وأوصى الأجيال الجديدة بأن يكونوا حراسا لعقولهم وأن يتدبروا المعاني في قراءة التاريخ وأن يكونوا حذرين في التعاطي مع القضايا المتعلقة بالعقل، ذلك لأن تعطيل العقل هو اغتيال للإبداع والتطور في الحياة، فما لم يكن الإنسان معافى في إطار قدرته على التفكير الحر والشفاف والمنفتح، فلن يكون بإمكانه المساهمة بشكل إيجابي في مسارات الحياة المختلفة.
كذلك كانت دعوة جلالة السلطان المبكرة إلى نبذ التشدد والإرهاب فقبل أن تصبح كلمة إرهاب جزءا من السرديات المستهلكة دوليا، كان جلالة السلطان في نوفمبر 1985 بقمة مسقط بالدورة السادسة للمجلس الأعلى لمجلس التعاون؛ قد أشار إلى الإرهاب وضرورة التصدي الجماعي له، بهدف الاستقرار في المنطقة.
وقد كان تقرير الخارجية الأمريكية قد بينا في تأكيد دور جلالته أبقاه الله- وحرصه على أن يعيش العالم مستقرا وآمنا، وهو أمر معروف في إطار سياسة السلطنة الخارجية القائمة على الحوار والاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤون الآخرين، وعدم السماح لهم بالتدخل في الشأن العماني، فحرية الإنسان تقف عند حرية الآخر، كما أن معنى الحرية بأي شكل كانت لا تعني النقض من الآخرين أو تهديد مصالحهم ومشاريعهم الإنسانية والفكرية والبنائية.
وفي هذا الإطار فقد أبرز تقرير الحريات الدينية دور جلالته في التقريب بين الأديان والثقافات، وتجلت أبرز معاني هذه الصورة الجلية في إنشاء كرسي صاحب الجلالة للديانات الإبراهيمية والقيم المشتركة بجامعة كامبردج ودعم وتنظيم الدورات التدريبية في الجامعة نفسها في مجال الحوار بين أتباع الديانات، وإنشاء مواقع إلكترونية، وتدريب الأئمة، واستقبال الوفود من مختلف أصحاب الديانات. وهو الأمر الذي يدلل على فكر منفتح على الآخر وعلى الحوار الإنساني بين الديانات المختلفة.
وإذا كان ليس ميسورا إيجاز ما جاء في التقرير من مضامين إلا أن السمة الغالبة في إطار الإشادة بالمنجز العماني وفكر جلالة السلطان في هذا الشأن، أن سلطنة عمان لم تشهد وجود إساءة أو تمييز على أساس الانتماء الديني أو الاعتقاد أو الممارسة، وأن هناك ما لا يقل عن مليون شخص يعيشون جنبا إلى جنب مع العمانيين رغم اختلاف التبعية الدينية دون مشكلات تذكر.
كذلك كانت إشارة التقرير الواضحة إلى النظام الأساسي للدولة الصادر في 1996 والذي يكفل للأفراد حرية الدين وممارسة الشعائر والطقوس الدينية، كما يمنع أي نوع من الاضطهاد أو الإساءة على أساس الدين. أيضا الإشارة إلى حرية الممارسة الدينية وفق الضوابط التي تصدرها الجهات المعنية سواء للمسلمين أو غير المسلمين.
وكانت هناك وقفة مع مجلة التسامح التي تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية والتي تؤكد للمرة الخامسة على التوالي على دورها الفاعل في تشجيع الحوار في الإسلام نفسه ومع الأديان والثقافات الأخرى.
إن صدور هذا التقرير في غمرة الاحتفالات بالعيد الوطني الأربعين المجيد، يأتي ليتوج بعدا آخرا من أبعاد الدولة العمانية الحديثة ونجاحاتها، فإذا كان تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة مؤخرا قد وضع السلطنة في المرتبة الأولى عالميا من حيث معدل التسارع في التنمية البشرية في مجالات الصحة والتعليم فإن تقرير الحريات الدينية يكمل الجانب الثاني من ثنائية النهضة المباركة في البعد الروحاني، حيث أن النهضة تقوم على تلك الموازنة بين البعدين المادي والروحي وحيث يؤكد جلالة السلطان حفظه الله ورعاه – على أن الأمم التي تفتقد لهذا البعد لم تستطع الاستمرار