رسم جلالة السلطان قابوس بن سعيد في خطابه التاريخي بمناسبة افتتاح الفترة الخامسة لمجلس عمان، الملامح الرئيسية للمشروع الحضاري العماني الحديث، محددا الأركان والأعمدة والدعائم الأساسية التي يقوم عليها هذا البناء الطموح ضمن رؤية استشرافية مستقبلية تستهدف توسيع المشاركة السياسية في صنع القرار لخدمة مصلحة الوطن والمواطنين.
أكد جلالته بلغة واضحة وصريحة وشفافة لا لبس فيها ولا غموض، أهمية إحداث نقلة نوعية للعمل الوطني ترتكز على أعمدة محورية يقوم عليها البناء الحضاري أهمها: ترسيخ دولة المؤسسات والقانون
، تنمية الموارد البشرية من خلال التعليم والتدريب، وضمان الحريات العامة والتوازن والبعد عن التطرف وتعميق دور القيم والأخلاق الحميدة في بناء الحضارة على منهج الرسالة المحمدية الذي يجسده الحديث الشريف “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، فكم من حضارة تساقطت كأوراق الخريف لأنها فقدت شرط التوازن المطلوب للتقدم عندما تراجعت الأخلاق النبيلة، وفقدت بوصلة التقدم الحضاري في متاهات الضياع.
إن البناء الحضاري المستدام يتطلب عقودا وأجيالا تعمل على تحقيقه ليكتمل البناء ويعلو ضمن رؤية مستقبلية تحددها وترسمها القيادة ويعمل الجميع على تنفيذها بصدق وإخلاص لرفعة الوطن وتقدمه. فلم تنتشر الدعوة الاسلامية في يوم وليلة لتعم البسيطة على الرغم من أنها رسالة سماوية، وهكذا كانت الرسالات السماوية جميعها منذ عهد نبينا آدم، انتهجت مبدأ التدرج للوصول الى الغايات النهائية.
أدرك جلالة السلطان ذلك مبكرا مستندا على رصيد حضاري مفاده أن الحكمة تقتضي التدرج في البناء بعيدا عن القفز في المجهول الذي غالبا ما يأتي بنتائج عكسية ولنا في التاريخ دروس وعبر. ومن البديهي أنه لا يمكن قطف الثمار لأول وهلة بعد الغرس، فلا بد من أن تنضج وتكمل دورتها الطبيعية ليحين قطافها في الوقت المناسب.
وهكذا كانت الصورة الكاملة المستقبلية حاضرة في ذهن جلالته، ويمكن بكل يسر تتبعها في خطاباته الأولى والتي وعد فيها بالمضي قدما في بناء الدولة الحديثة موجها بوصلة الوطن نحو مرافيء الاستقرار والتطور والنماء. إن من أهم عوامل نجاح النهضة العمانية هو إيمان الشعب بمشروع القائد، وهذا التلاحم هو ما يضمن لأي مشروع النجاح والتطور المستدام. لقد دعا صاحب الجلالة في خطابه الى ترسيخ مفهوم التعاضد والتكاتف بين جميع المؤسسات العامة والخاصة. وهذا التفاعل الايجابي يضمن الوصول الى أفضل النتائج المرجوة من الخطط والبرامج الوطنية.
وخلال الأربعة عقود الماضية تم تشكيل وبناء العديد من المؤسسات العامة والخاصة والجامعات والمراكز والجمعيات التي تعمل جميعها على توسيع المشاركة الشعبية في صنع القرار بمختلف الوسائل. فهناك -على سبيل المثال- غرفة تجارة وصناعة عمان ممثلة للقطاع الخاص، وهناك ايضا الجمعيات المهنية المختلفة التي تشكل جزءا من المجتمع المدني، والتي يمكنها أن تتفاعل ضمن مجالها التخصصي. إن إرساء آليات التكامل والاستفادة منها مسألة في غاية الاهمية في المعالجات المطروحة لمواجهة التحديات المختلفة.
وعلى المستوى السياسي كان جلالته يمضي بحكمة وتروٍ نحو إرساء دولة القانون والمؤسسات، وما يستلزم ذلك من وضع الخطط ورسم الأهداف المتناسقة مع كل مرحلة من مراحل التطور. وهذه ليست بالمسألة السهلة كما قد يبدو للعيان، ولا يمكن تحقيقها بقرار سياسي دفعة واحدة، بل يلزمها التدرج المنهجي والمدروس لكي تؤتي ثمارها كاملة، ولننتقل بعدها إلى المرحلة التي تليها. هذا هو التطور الطبيعي الذي يلبي حاجة المجتمع ويخدم أهدافه ويستجيب لتطلعاته المرحلية.
إذاً.. جاء توسيع الصلاحيات التشريعية والرقابية لمجلس عمان لتواكب التطور النوعي في المجتمع العماني وحاجته اليها ليطبقها ويمارسها بالشكل الصحيح لخدمة الوطن والمواطنين. فالديمقراطية ليست هدفا في حد ذاتها لكنها وسيلة من وسائل إدارة المجتمع وتنظيم موارده وضمان استقراره ونموه، ومن هنا فالمجتمع يحدد شكل ونوع الممارسة الديمقراطية التي يحتاجها في كل مرحلة. فلا خير في ديمقراطية متعجلة تجلب الخراب وتشعل الفتن وتعيق حركة المجتمع، عبر ممارسات غير حضارية، وبدلا من أن يكمن فيها الحل، تكون هي المشكلة المزمنة كما هو حاصل في بعض الدول التي وقعت أسيرة شباك الديمقراطية المشوهة غير مكتملة الأطوار.
لابد من الوعي السياسي الضروري لتشرب المسؤوليات الديمقراطية، ولا يتعلق الامر بوعي النخب فحسب، بل المقصود الوعي المجتمعي، الذي يتطلب تطور المجتمع واكتسابه للخبرات التراكمية فيما يخص قضايا ترتبط بالعمل الديمقراطي مثل الانتخابات واختيار من يمثلهم على ضوء معايير الكفاءة والقدرة والمؤهلات بعيدا عن المعايير الضيقة للمجتمع التقليدي.
ومن هنا فقد حدد جلالته معالم المرحلة ضمن رؤيته المستقبلية بالقول: “إننا ماضون في تطوير المؤسسات القضائية والرقابية بما يحقق تطلعاتنا لترسيخ دولة المؤسسات”.. حقا إنها بداية مرحلة جديدة ضمن منهج التطوير المستدام.
ومن أهم مرتكزات مشروع عمان الحضاري التي أولاها جلالته جل الاهتمام والرعاية منذ بداية عصر النهضة، مرتكز تنمية الموارد البشرية كونها العماد الحقيقي والذي لا يمكن أن تقوم قائمة لأمة بدونه، أو أن يحتل شعب موقعه في السباق الحضاري من غيره. ومن هنا جاء الاهتمام بالتعليم بمختلف أنواعه ومجالاته ومستوياته والتدريب والتأهيل مما مهد الطريق لخطط التعمين الطموحة وخلق وظائف للكوادر الوطنية المؤهلة والمهيأة للريادة والاضطلاع بالمسؤولية في مختلف المستويات والمواقع.
ومع تطلع المجتمع وحراكه الحيوي والتركيز المستمر على تطوير التعليم كما وكيفا، وإدراكا من جلالته لحيوية التحديات التي تواجه مسيرة التعليم بشكل مستمر، فقد جاءت توجيهات جلالته في خطابه السامي بـ “إجراء تقييم شامل للمسيرة التعليمية من أجل تحقيق تلك التطلعات والاستفادة من فرص العمل المتاحة في القطاعين العام والخاص”.
ولما كان توفير فرص العمل من أهم التحديات التي تواجه دول العالم، فقد أمر جلالته بالمراجعة الشاملة والربط بينهما لتحقيق التكامل. فالتعليم الجيد يهيئ المخرجات لسوق العمل، وشغل الفرص العديدة المتوافرة والتي يشغلها غيرهم من غير ابناء الوطن، وليست هذه هي الوظيفة الحصرية للتعليم، بل يعمل على خلق المواطن المستنير الذي يتحلى بالمسؤولية في أداء مهامه الحياتية وواجباته تجاه وطنه، وحماية منجزاته كونه يملك الوعي الذي يؤهله لذلك. لذا.. لابد ان تكون هناك وفي كل مرحلة جديدة مراجعة وإعادة نظر لتقييم مردودات المرحلة السابقة، والتهيؤ للمرحلة اللاحقة لأن احتياجاتنا في العقد القادم تختلف عن متطلباتنا في العقد الاول والثاني والثالث من عمر النهضة المباركة. لذلك جاءت الأوامر السامية بزيادة فرص التعليم العالي والتوسع في تأهيل الكوادر الوطنية على مستوى الدرجات العلمية الرفيعة من الماجستير والدكتوراة، وفي هذا الصدد تم تخصيص مائة مليون ريال في الخطة الخمسية الحالية لاعدادهم في مختلف التخصصات. الأمر الذي سيرفد الأطر العمانية بكوادر نوعية تحقق المأمول منها في المرحلة الجديدة.
ولأن الفساد من أهم معوقات التنمية، فقد شدد جلالته على اجتثاث الفساد من أرضنا الطيبة بتقوية جهاز الرقابة المالية والشورى في آليات الرقابة. ولا يخفى ان الفساد لا يعني سرقة الأموال العامة فحسب، بل يتخذ أشكالا وأنواعا مختلفة تستفحل مع طغيان قيم المادية المتوحشة وعبادة المال وغياب الوازع الديني. وهذا يستوجب الالتفات الى التوجيه السامي بأهمية الأخلاق والقيم في المعترك الحضاري، ودور الرسالة الانسانية في التنمية، وإعلاء مصلحة الوطن فوق المصالح الفردية والانتهازية التي تبرز لدى البعض ليستغلوا وظائفهم لتحقيق مصالح شخصية ضيقة. الأمر الذي يتطلب قطع الطريق على امثال هؤلاء والتصدي لهم بحزم وعزم، وقد عبر جلالته عن ذلك بالقول: “إننا نؤكد من هذا المقام على عدم السماح بأي شكل من أشكال الفساد ونكلف حكومتنا باتخاذ كافة التدابير التي تحول دون حدوثه وعلى الجهات الرقابية ان تقوم بواجبها في هذا الشأن بعزيمة لا تلين تحت مظلة القانون”.
وقد وضع جلالته الشباب امام مسؤوليتهم التاريخية بتذكيرهم بأن منجزات الوطن امانة في اعناقهم، ليقوموا بدورهم المرتجى في الحفاظ على دفة السفينة في سيرها صوب شواطئ التقدم، وحتى لا تميل بهم ويفقدون التوازن في الخضم المفتوح.
إن التطوير سنة من سنن الحياة لا يمكن ايقاف عجلته، وعلينا جميعا العمل بجد واجتهاد من أجل رفد عجلة التطور بالمزيد من عوامل التقدم، وتكريس النموذج العماني في التجديد الحضاري، والذي يواكب العصر في نهج متدرج لتحقيق التطوير المستدام.
المصدر
http://alroya.info/ar/home/al-roya-blog/viewpost/27080