ماذا حدث في عُمان خلال الأشهر التسعة الماضية؟ ولماذا حدث؟ وكيف حدث؟
أسئلة تبدو صعبة جدا، ولكنّ الإجابة عليها ولو جزئيا ملح أيضا، فالشعوب والأمم تلتفت أحيانا لترى ماذا قدمت وماذا أنجزت لتعرف أنها تسير في الطريق الصحيح.
والأشهر الماضية من عمر عُمان ومن عمر نهضتها المباركة كشفت الكثير والكثير من علاقة وثيقة نشأت بين قائد وشعب، بين قائد وعد في أول يوم فأوفى. قائد استطاع أن يقود دفة سفينة النهضة وسط أمواج متلاطمة ووضع عمان في سياقها الحقيقي.
ليست الدهشة وليدة يوم أمس إذن، حيث كان الجميع يترقب وصول جلالته، الحالة بكل تجلياتها كانت مبررة، لأن لحظة الترقب والانتظار كانت عظيمة، والشوق كان عظيما أيضا. لأن القائد قائد استثنائي، قائد لا يتكرر في تاريخ عُمان أبدا. بل كانت الدهشة فعل تراكمي أحدثه حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم، أعزه الله، طوال مسيرة النهضة المباركة فكان الشوق والحب والترقب بحجم تلك الدهشة التي تراكمت عبر كل تلك السنوات الاستثنائية في تاريخ عمان الحديث.
إذن لا غرابة من المشهد الذي عاشته عُمان أمس، مشهد تخالطت فيه الفرحة بالبكاء، دموع الفرح سالت كما لم تسل من قبل وغسلت تسعة أشهر من الخوف والترقب، والخوف من عبارة «الفحوصات الطبية» والترقب للنتيجة التي جاءت من جلالته بعد ذلك حينما طمأن شعبه يوم 5 نوفمبر. لا غرابة من مشهد الترقب الذي بدأ منذ الصباح الباكر رغم عدم وجود إعلان رسمي سبق وصول سيد عُمان، ولكن المحب يشعر بعودة محبوبه فكيف إذا كان هذا المحبوب هو قابوس بن سعيد وكيف إذا كان المحب هي عُمان شعبا وتاريخا ومرجعية وجغرافيا. لا غرابة من حالة الفرحة التي نزلت على عمان ونثرت عليها السكينة، لا غرابة من دموع الفرح التي تناثرت في عمان من أقصاها إلى أقصاها فوراء كل ذلك حكاية طويلة يعرفها العمانيون وحدهم. وراء كل ذلك ملحمة رسمها قائد وشعب. رغم إن الزمن قد طال بين 9 يوليو وبين 23 مارس، 257 يوما ليست هينة لكن روح الحب لم تخفت، ولم يتغير الخطاب خلال كل تلك الأيام، كان الخطاب هو خطاب السؤال عن جلالته وعن موعد عودته وعن صحته في المقام الأول. اختزلت عُمان كل قضاياها وكل أحاديثها في حديث واحد فقط وفي سؤال واحد فقط حديث السلطان وسؤال صحته التي هي صحة عُمان كلها.
لو أن راويا وثق ما حدث في عُمان خلال الفترة الماضية لما صدقته، وما صدقه من سيقرأه بجانب ما يحدث في العالم العربي. ولكني عشت كل ذلك كما عاشه العمانيون، وكما عاشه معهم الكثير من العرب وفي الحقيقة من غير العرب أيضا.
وكان همي أن أرى وأسمع: أرى الوجوه الوجلة، وأسمع الأصوات التي أتعبها الترقب فتهدجت، فأحاول أن أرسم صورة بانورامية ولكنها تتوسل التكامل والتجانس مع المشهد في العالم العربي. ملحمة الشعب والقائد. شعب كامل ينتظر عودة قائده، وينتحب وجلا لتأخر عودته من رحلة فحوصات طبية، فيما شعوب أخرى تقود حكامها إلى مقاصل التاريخ.
رغم كل الأحداث التي تجري في العالم إلا أن العمانيين كانوا معنيين بموعد وصول قائدهم وبصحته، معنيين برؤيته يتجلى بينهم وهو يطل من الطائر الميمون نزوى.
لماذا كل ذلك؟ لماذا تتحول عمان إلى كتلة عيد متحركة، ولماذا ترتسم الفرحة على وجه طفل صغير؟ وعلى وجه رجل طاعن في السن لم يبق له الزمان بقية؟ وما المعنى الحقيقي لكل ذلك؟ ولماذا يقدم العمانيون صورة مختلفة عن صور العلاقة «العربية» بين القائد والشعب، بين «الزعيم» وبين جموع الجماهير.. لماذا هب العالم العربي كله أمس يشارك العمانيين فرحتهم ولماذا كانت تلك الفرحة الاستثنائية التي عاشتها عمان يوم أمس.
أسئلة لا يمكن الإجابة عنها بشكل حقيقي دون أن نفهم تاريخ العلاقة الحقيقية بين عُمان والعمانيين من جهة وبين جلالة السلطان أعزه الله من جهة ثانية.
لم يكن جلالة السلطان في نظر العمانيين يوما مجرد قائد أو زعيم عابر يعتلي عرش دولة ممتدة دون انقطاع منذ قرون طويلة. بل كان هبة سماوية قادتها الأقدار إلى عُمان.. كان هبة يعرف سخاءها العمانيون الذين عايشوا مرحلة ما قبل السبعين.. المرحلة القاسية في تاريخ عمان الطويل ويعرفها حتما أبناء اليوم لأنهم يقرأون ما يحدث في المشهد العربي والعالمي ويقرأون واقعهم الداخلي المقارن. كانت عُمان تبحث عن قائد وزعيم يعرف من هي عمان، كانت عُمان والعمانيون يبحثون عن رمزهم المفقود. كان لعمان عزها ومجدها في التاريخ وفي بناء الحضارة الإنسانية. لكن أزمنة شكلتها تداعيات العالم الجديد وحروبه الكونية جعلت عُمان تغيب عن مكانها الحقيقي.. وتتراجع إلى الوراء سنوات ضوئية حتى أوشكت على التلاشي والتشظي النهائي.. ولكن دولة عريقة مثل عمان لا يمكن أن تتلاشى أو أن تفقد لحظة الحلم بغد حقيقي وليس خياليا… كانت عمان فيما قبل السبعين تنتظر، وكانت تنتفض، وتصنع مجدها، ثم لا تجد من يمسك بيدها ويقودها وسط الأنواء والعواصف فتسكن أو تستكين، ثم لا تجد بعد ذلك إلا أن تبقى على الحلم بالمخلص المنتظر.. وبقي الحلم هو الخيط الوحيد الذي يربط العمانيين بعظمة ماضيهم وحدود مستقبلهم الغامض.
فدار الزمان دورته الكاملة، وبدا أن نجم السعد قد لاح لهذه البلاد ويحمل خبرا سوف تتناسل منه أخبار كثيرة تغمر عمان فرحة أبدية. كانت عُمان فيما قبل السبعين تتحرك، وتنتظر، وتحلم.. وتحلم.. وذات صباح يوم الثالث والعشرين من يوليو من عام السبعين استيقظت فجأة على الواقع.. وجدت نفسها وجها لوجه مع قدرها الذي ساقه الله سبحانه وتعالى لها.
لا تبدأ الحكاية إذن في يوليو الماضي يوم غادر جلالته إلى جمهورية ألمانيا، ولكنها في يوليو من عام 1970.. حيث طبع الزمان قبلته الأزلية السرمدية على جبين عمان. وتجلى في المشهد العماني جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم، حفظه الله ورعاه، وكان أن عرف العمانيون لحظة إذْ أنه هو القائد المنتظر، وأنه هو الذي سيعيد أمجاد البلاد إلى ما كانت عليه.. وكان لانتفاضتها هذه المرة التقاء مع الحلم فكانت الحقيقة. وكان أن سار الجميع خلفها.. ثم بجانبها وامتدت قافلة البناء، ووضع الجميع أيديهم في أيدي القائد لأنه كان حلمهم وحلم أجيال قبلهم.. وكان قدرهم الذي وهبهم الله إياه لأنهم يستحقونه ويستحقهم.
وبنيت عمان حجرا حجرا، وطوبة طوبة. ذهب القائد/ الحلم إلى القرى والبوادي، وإلى الساحل والجبل، خرج من حياة القصور إلى البراري وحياة الخيام من أجل أن يعرف كل ما يدور في الوطن ويحضر لحظة تجلي حلمه.. وكان أن توافقت الأحلام وتمازجت.. فكانت عُمان بكل بهائها وألقها.
هكذا تبدو الحكاية أكثر وضوحا وانكشافا ولا يبدو ثمة غموض في سر الأشهر التسعة التي مرت بها عمان.
بعد هذا لا يمكن لأي متابع خارجي أن يسأل عن سر هذا الحب، وعن سر العلاقة الاستثنائية بين العمانيين وبين قائدهم وحلمهم.. ومن يقرأ سير القادة العظماء في العالم سيعرف حتما أن هذا يحدث، يحدث في الحقيقة لا في الحلم.
لكن المشهد اليوم يشي أن الأشهر الماضية ستعيد رسم خارطة العلاقات بين القادة والشعوب.. وعلى البقية أن يقرأوا في كتاب تلك العلاقة ففيه الحل للكثير من مشاكل العرب وانتكاساتهم الأزلية.
وتنفست عمان وأشرقت عليها شمس جديدة ودخلت ميلادا جديدا عسى أن يكون سرمديا. وسيتذكر العمانيون يوم 23 مارس كما تذكروا من قبل يوم 23 يوليو، وبين التاريخين حكاية لا يتقنها غيرهم.
عاصم الشيدي – جريدة عمان