جلالة السلطان والنهضة العمانية
محمد عبد الله محمد
كاتب بحريني متخصص في الشؤون الدولية
أقول استهلالاً إن جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم هو من ضمن الاستثناءات الحاكمة في هذا الإقليم الواسع. ولأنه كذلك فيُجاز لكل مُنصف ومُحلّل أن يتناول شخصية جلالته في ذات الوقت الذي ترفل فيه السلطنة بالاحتفاء بمرور تسعة وثلاثين عاماً على تولّي السلطان مقاليد الحكم.
هنا أستلّ من هذا الحدث معادلة تبادليّة بين شخصيّة جلالة السلطان وما يسوده من بلاد. تفسير ذلك مُرتبط إلى حدّ بعيد بجلالة السلطان عقلاً وفكراً وسياسة ورؤى فجلالته يعمل بمبدأ «لا استعراض في السياسة، ولا التزام أكثر من المُتاح».
لذا (وهكذا أدّعي) تُفهم دلالات الفعل من قيمة فاعله. فجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور بن فيصل بن تركي البوسعيدي ليس كأيّ قائد. وبلاده ليست كأي بلد أيضاً، لا من حيث التاريخ ولا الموقع. وهنا يظهر الارتباط بين الإنسان والأرض.
وإذا ما أريدَ لأحد أن يفهم ويُدرك أهمية ومحوريّة نهج جلالة السلطان قابوس في عُمان فعليه أن يقرأ إرهاصات النهضة العُمانية منذ انطلاقتها ولغاية اليوم. فالبدايات هي التي تُحدد مسار وشكل الأحداث وقوّتها، وهو ما أريد التطرّق إليه في هذه المقالة.
في إدارة الدول حديث مُعقّد. فالعلاقات الممتدّة تُوضّح اتّساع مصالحها. والصّبر على الوقت يُحَدّد خياراتها، والجغرافيا تُحدّد أمنها. والديمغرافيا تتحكّم في قوّتها. وشكل الحكم مُؤشّر على ديمومتها مَدَّاً وجَزراً. لتبقى العقدة في كيفية تبنّي كلّ ذلك لإنتاج ديناميكية سياسية نشِطة.
عندما تولى جلالة السلطان قابوس بن سعيد الحكم (23 يوليو 1970) كانت عُمان بحاجة إلى نهضة شاملة. وكانت مهمّة جلالة السلطان مُضاعفة في تحقيق التماسك الوطني وفى إقامة نظام سياسي وإداري واجتماعي هو غير ناجزٍ حينها من الأساس.
كانت الظروف حينها لا تقبل نظريّة «تقسيم القوّة». فإشكاليات الإجماع أو التجانس غائبة لكن ذلك الغياب لم يمنع من استيعاب جلالة السلطان لكل القوى الاجتماعية في عُموم السلطنة. وهكذا فعل.
في أحوال الاستقرار السياسي كان أمام جلالة السلطان قابوس (عندما دشّن مشروع الدولة الناهضة) مناهج خمسة لتحقيق ذلك الاستقرار، هي في الأساس قيم علمية، بها تُفسّر قضايا السياسة والاجتماع وعموم مناحي الحياة.
(الأول) استقرار سياسي دون استخدام القوّة (الثاني) استقرار سياسي قائم على ثبات وديمومة النظام (الثالث) استقرار سياسي مُنبثق من نظام سياسي قانوني (الرابع) استقرار سياسي بمفهوم فقدان التغيير البنائي (الخامس) استقرار سياسي بوجود موازين اجتماعية متعددة.
ولأن البلد كان يحتاج إلى ضبط وترشيد فقد كانت القوة من أجل الديمومة، والديمومة من أجل القانون، والأخير من أجل تغيير بنائي إيجابي، وهذا بدوره يدفع باتجاه الاستقرار القائم على ركائز اجتماعية متعاضدة وليست متضادة.
من يَدرُس التحوّلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقيّة العُمانية منذ مجيء جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم سيُدرك ذلك جيداً. ويمكن أن يتحوّل الموضوع العُماني حقيقة إلى قيم تحليلية بالنسبة لدول أخرى لا زالت عصيّة على التحولات المحسوبة.
لنقرأ التاريخ جيداً. كثيرةٌ هي الدول التي بُنِيَت على سواعد الآخرين. الولايات المتحدة في بداياتها اعتمدت على الهجرات الأوربية الوسطى والغربية واعتمدت حتى على الزنوج. بريطانيا هي الأخرى استفادت من الهجرات الأيرلندية بعد العام 1850م.
في عُمان أصر جلالة ّ السلطان على أن يتحوّل الإنسان العُماني إلى ذراع وعقل وقلب ومستقبل يبني بلده لبنة بعد أخرى حتى ولو طال المشروع عاماً أو عامين، عَقْداً أو عَقْدَيْن. فالنّحت في الصخر أبقى من الغَرْفِ في البحر.
وكان جديراً بأن يُدرك الإنسان العُماني بأنه مدفوع لأن يتمرّن على الانتقال من العمل الموسمي إلى العمل المنتظم، وأن يتعامل بشكل جيد مع الحوافز المادية وسياسات التأجير من الباطن في تسيير التنمية حسب وصف إريك هوبْزْباوْم.
لقد كانت هذه التحوّلات مطلوبة (وبإلحاح) بالنسبة للإنسان العُماني، لكنها أيضاً تحوّلات كانت تفرض أجواءً أقلّ إثارة واستفزازاً لتَلالِيبِ ماضٍ راحل، قد يُؤثّر على مصالح آخرين حين يتوهّمون بأنهم مغلوبون في معركة التنمية.
لذا فقد استطاع جلالة السلطان أن يُؤطّر التغيير بمضامين الهدوء وبالحوار والعلم وبُعْد التفكير، وأن يتفادى ما حصل في الكثير من الدول كالذي أحدثه الميثاقيون في بريطانيا وفقراء الأرياف والبرجوازيّة الصغيرة ونظرتهم السلبيّة لـ «المَكْنَنَة».
لقد كان ذلك بمثابة وضع الحدود الخاصة بسلطة الحِراك الاقتصادي والاجتماعي وحتى السياسي على القانون، والتلازم بينه وبين العمل المُحتكِم إليه، متجاوزاً في ذلك وضعه في متناول التجاوز والقفز على النظام العام.
وقد أسّس ذلك لأن تتباعد وتختفي النظريات العُرفيّة القديمة القائمة على تقريب طبقات وأشخاص من أنوية السلطة واحتكارها للامتيازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية عن باقي الطبقات الأخرى.
هذا ما خصّ الداخل. وليعذرني القارئ الكريم لأنني لم أشأ أن أختم مقالتي هذه دون أن أُعرِّج (ولو بعُجالة) على سياسات السلطنة في عهدجلالة السلطان المعظّم. فهي شاخصة في اعتدالها ورويّتها وحصافة قراراتها.
وجدنا ذلك في أوقات الرخاء والأزمات، والتي عادة ما تضيع خلالها اتجاهات البوصلة. كلّ من يُراقب السياسات العُمانية سيُدرك أن هذا البلد كثير الأصدقاء، قليل الأعداء. لا يُسْتَقْوَى به على طرف دون آخر.
ولا يُمارِس استئساداً على جوار صغير أو بطن رخو. ولا يلتفّ على المبادرات الإقليمية والدولية لصالح أحد ضدّ آخر. نعم لدى جلالته مواقف أصيلة وواقعيّة لقضايا الأمّة. فهو ضمن هذا المسار يتّكئ على الثوابت. وهو ذات المسار الذي طاله الإفراط والتفريط لحدّ الخلط ما بين البِرّ والبُر. بل إن سياسات السلطنة ظلّت موئلاً للتقريب والجَمْع طيلة السنوات المنصرفة.
كذلك يجب التنويه هنا على أننا قلنا ما قلناه عن بدايات النهضة لاعتقادنا أنها كانت التأسيس الصحيح لإنجازات اليوم. فما نراه من تطوّر حقوقي واقتصادي واجتماعي ما هو إلاّ بُخار عافية تلك النهضة.
إننا كمراقبين ينتابنا الفخر ونحن نجد ما يطمح إليه الإنسان العربي في القيادات العربية أن يجده في شخصية جلالة السلطان المُعظّم، وفي السياسات الداخلية والخارجية لسلطنة عُمان الشقيقة. ونحن اليوم نُشاطِر السلطنة أفراحها وهي تحتفي بإنجازاتها وبعيدها الوطني.