مضت خمس وأربعون ربيعا وعُمان ترفل بحقب تاريخية ماجدة اتسمت بعنفوان تنمية الإنسان المُتلهف بعشقٍ حضاري خالد يزدان حبا ووئام بين جموع الشعب وعدالة الحاكم، هي ملحمة خالدة يشدوا برُبابتها التاريخ ليَسمع أثيرها جموع الأُمم والشعوب، فيرشفون من مَعِينِ جنائِنِها أُرجوزة المدنِّيَة والتحضُّر، فأضحى اسم “عُمان” نغمٌ تتعطَّرُ به ألسنة الطفولة الواعدة، وتصدحُ به فخراً حناجر الشبيبة الظافرة، وتلهثُ بعبقِها ألسنةُ آباءنا وأجدادنا الذين عمروا أرض مجان الطاهرة خير عمارة، وقد تنوعت حقب التاريخ العُماني في عهد النهضة الزاخرة والتي عضَّت بالنواجذ على مفاصل المواطنة والانتماء في زمن نادت به جموعا غفيرة من الأمم المحيطة بها لكنها كانت أقربُ ما توصمُ بالكذب والسذاجة في هذه الادعاءات؛ فتسمع بين حين ٍوآخر دعوات تنازل الثريا لاستثارة الشعوب نحو أهداف وطنية هُلامية تمضغها الألسنة لتكون بعد حين مناص قُربان لتحقيق مقاصد حزبية أو قومية أو قبلية أو مذهبية كما هو واقعنا العربي الآن، حتى إذا ما انقشعت غيوم الكذب وشراء الذمم تراشق أبناء الوطن الواحد بنباتات سامة قاتلة تربتها الخبيثة ترتوي بمعين التحزّب والانشقاق.
إن المتتبع لسيرورة الزمن العُماني في عهد السُلطان قابوس يلحظُ أنها تمضي قُدما نحو بناء مفهوم ودلالات دولة المؤسسات العصرية القائمة في المقام الأول على سواعد المواطنين والتي تمثل باكورة الازدهار الحضاري في مختلف المجالات المدنية سواء السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والعمرانية؛ إذ استطاع السلطان قابوس إخراج السلطنة من عمق الزجاجة والعُزلة إلى محافل الوجود الدولي، فأصبحت عُمان بذلك رقماً صعباً ضمن المنظومة العالمية قوامُها التبصُّرِ والحكمة والثوابت الإنسانية النبيلة نحو عيش رغيد للجميع، عاشت عُمان قبل نهضة السبعين كما تذكر كتب التاريخ حياة الغاب من خلال عُزلتها السياسية، ديدنُها الأول والأخير الذوّد عن (فُتات) دولة مُقسَّمة آنذاك بين الداخل والخارج؛ فقد عصف الاحتقان القبلي والأيديولوجي بالثقل السياسي العُماني ردحاً من الزمن ليهوي بالبلاد والعباد نحو مُستنقعات سحيقة مظلمة ومفترقات طرق وجِلة من استعار الحرب الأهلية النتنه؛ فخارت مكانتها الإقليمية والدولية وأضحت من المُستضعفين الذي سال عليها لُعاب أهل النفوذ من سماسرة وشراذمة الموت؛ فدُمِّرت البلاد ونُكِّل بالعباد فلم يبقى بها شجرٌ ولا حجرٌ ولا مدرٌ إلا ويلهجُ بصوت الرصاص والاغتراب في أرض الوطن، وأضحت دعوة النبي الكريم “لو أنك أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك” وكأنها ضرب من ضروب الماضي المندثر، وقد جرَّ ذلك الضمور السياسي زُهداً اقتصادياً أمام ما تملكه البلاد من خير وفير فغابت العدالة الاجتماعية وشهدت البلاد عقما ثقافيا لا مثيل عبر صفحاتها الظافرة، فعاش الناس فقراً مُدقعاً وإحباطاً مُفزعاً ألقى بضلاله على الداخل والخارج؛ وأصبحت طيور العمانيين المُهاجرة سعياً للعيش الرغيد تُبصَرُ على امتداد البصر تتقاذفهم أمواج البحار- وهم نواخذته وقبطانه بلا مُنازع – نحو العمل في الكويت، والسعودية، والبحرين، وجنوب شرقي أفريقيا وغيرها من مجاهيل العالم الشرقي والغربي، في وقتٍ كان جيرانُهم يتقلبون في نعيم البترول الآسر.
وفي زاوية أخرى كانت البلاد تَألَمُ من جِراحات الخِنجرِ المسموم الذي أشهرهُ بعض رجالات الشيوعية في جنوب عُمان والتي شكَّلت مُنعطفاً ثالثاً يستنزفُ جُرح الوطن المُتهالك بين الإمامة والسلطان والأجندة الخارجية، فمنذ منتصف الستينيات وحتى مطلع السبعينيات وبالتحديد في عام 1975م كانت حركة التمرد تتلَّقى دعماً سخياً من الجمهورية الليبية بقيادة الراحل العقيد معمر القذافي وبعض الاشتراكين في العراق وسورية ومن قوى دولية ترعرع فيها الفكر الشيوعي في قطبين رئيسيين هما الصين والاتحاد السوفيتي آنذاك، وفي خضم هذه الزوبعة التي تعيشها البلاد والاحتقان السياسي وغياب العدالة الاجتماعي الذي كان يلتهمُ الأخضر واليابس، انبرى السلطان قابوس على منصَّة القيادة وعلى كاهله إِرثٌ مُثقلٌ بالجِراح، ووطنٌ مُتهالكٌ ومُترهلٌ بالدماء الفاسدة من الداخل والخارج، وسهامٌ مُتواترة بين الحين والآخر من الشيوعية في الجنوب، وبذور الإمامة النائمة في الجبل الأخضر وضواحيه، وتراشق دولي كبير بين الرأسمالية والشيوعية، علاوة على الخطر الإيراني الذي كان ولا زال تتوجس منه رِيبة ورَهبة دول مجلس التعاون الخليجي، فكان خطابه السامي يشي بما تشعر به نفسه ونفس العمانيين من الإحباط والبؤس تجاه الموقف العربي وهو الذي كان يطمح منهم احتواء تمرد الجنوب إذ أن عددا من الدولة العربية كانت تقدم دعما كبيراً للمتمردين، فكان خطابه السامي: “إنني كنت أنتظر بمجرد أن أصبحت عمان عضوا في الجامعة العربية أن يبادر الأخوة إلى وقف هذا النزيف!”.
وحينما لم تُمدُّ له يد العون سوى من إيران إبان حكم الشاه فقد قطع القائد العظيم عهداً خالداً على نفسه بتحرير كل شبرٍ من هذا الوطن باسم عُمان دون غيرها من المسميات والتحزُّبات، كما تعهد بأن يرفل كل عماني بالعيش الهانئ الرغيد، فاستطاع أن يوحِّد الصف ويلم الشمل في (11/ ديسمبر/1975م) بعد دحر جماعات التمرد، مُعلناً العفو والصفح عمن أجرم في حق الوطن والمواطن مُتوشِّحاً في ذلك فعل النبي الكريم حينما فتح مكة فقال لأهله: “اذهبوا فأنتم الطُلقاء”، فلم يكن جسوراً على الضُعفاء، ولا مُتعجرفاً على المهزوم، ولا سيفاً مُسلَّطا على من أعمتهُ قبليَّته أو تزمَّت بالدين والمذهب والفكر، فلم يكن مثل كثير من قادة العالم الذين يقتاتون على دماء شعوبهم، فينكِّلون من خالفهم، ويستحِلُّون أموالهم وأعراضهم؛ لذا خلَّد التاريخ تلك الملحمة التي دفعت جموع العمانيين للوقوف خلفه وشعارهم “ماضون خلفك لا شِقاق ولا فِتن”، كما أنه لم يحجُر نفسه ووطنه عمن كانوا أعداءه وأعداء الوطن بالأمس، فعانقت يداه الصين والسوفييت ومصر والعراق وسورية وكثير ممن كانت تلطَّخت أياديهم ذات يوم بدماء الشُرفاء من أهل مزون الخالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أظف إلى ما سبق فإنه لا يخفى على عين بصير الموقف العُماني الذي انتهجه السُلطان قابوس سياسته الخارجية مع كثير من مجريات الأحداث الملتهبة، ففي المشهد الإيراني نجد أن الفكر المستنير لقائد النهضة المباركة يستوحي مبدأ الحوار والجوار بمسؤولية حضارية وتاريخية عميقة، قوامُها المصالح المُتبادلة سياسياً واقتصادياً وثقافياً؛ فكانت السلطنة تقف موقف الحياد في الكثير من الأزمات التي تكون فيها إيران طرفا مباشرا مع دول الجوار أو مع تطورات المشهد العربي، فبعد المأساة التي عصفت بالعلاقات العربية – الإيرانية إثر حرب الاستنزاف بين العراق وايران على مدى ثمان سنوات عجاف (1980- 1988م) نجد أن الموقف العماني كان يتوخَّى الحذر لينزوي بعيداً عن التصعيد أو الاحتكام للرصاص والمدافع بل كان يدعوا إلى تغليب الحكمة والعقل والاحتكام للروح الإنسانية النبيلة، أضف إلى ذلك أنها القُطر الوحيد في المنظومة الخليجية التي تتمتع بعلاقات وطيدة مع إيران باسم الإنسانية وحسن الجوار، متناسية في ذلك شبح المذهبية المقيتة التي يتعاظم أثرها المخيف في نفوس كثير من الأنظمة الخليجية والعربية، فنأت بنفسها عن أن تكون مياهاً راكدة تقطع حلقة الوصل بين الخليج العربي والبوابة الشمالية له بفضل القيادة الحكيمة والحنكة السياسية النبيلة؛ فكانت محل ثقة الإيرانيين في التعامل مع كثير من المواقف الخليجية والعربية والعالمية، ولا أدلَّ على ذلك أن عُمان شكلت على مدى السنوات العشر الأخيرة جسر التلاحم والتواصل بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران في وقت كان الكل يرى استحالة أن تكون هناك أي بوادر للقاء من هذا النوع لتتوج تلك اللقاءات بتوقيع اتفاقية نووية بين إيران والدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية في 2015، وعلى الرغم مما تتمتع به السلطنة من تنوع مذهبي إلا أنها استطاعت أن تُشكل لحمة من الانسجام في دول المنطقة لتكون باكورة فريدة من نوعها في وقت تشهد فيه المنطقة غليان مذهبي مخيف.
وفي الداخل العُماني نجد أن التعامل مع كثير من الأفكار والمواقف والأزمات اتسمت بالحكمة والمسؤولية الوطنية الرائدة؛ فكثير من الأحداث التي توالت على البلاد طوال أربعة عقود مثل ظهور بعض التنظيمات السرية التي حاولت إحداث انقلابات سياسية مدفوعة بأيديولوجيات معينة – كما هو الحال في كثير من بلدان العالم العربي- إلا أن التعامل المسؤول من قبل القيادة الحكيمة كان فريدا من نوعه ومتميزا؛ اتسم بالتعامل مع الموقف من خلال تِبيانُ الحقيقة وتبصِير من غُرٍّر بهم بضرورة التوبة والعضِّ بالنواجذِ على مُقدّرات الوطن والإيمان بقُدسيته، كما أن الكثير من الاعتصامات والإضرابات التي توالت على الساحة العمانية والتي كانت تنادي جهاراً نهاراً بالإصلاحات التعليمية، والاقتصادية، ومحاربة الفساد، والترهل المؤسساتي لاقت آذاناً صاغية من قبل القيادة الحكيمة؛ لأنها على قناعة تامة بأن أربعة عقود من البناء والتطوير الإنساني كفيلة بخلق جيلٍ واعٍ يقرأ الأحداث بمسؤولية وتبصُّرٍ في سبيل رفع راية عُمان خفَّاقة بين الأمم، فحقَّ للسلطان قابوس أن يفخر بوطنه وشعبه، وحقَّ للعمانيين أن يرشفوا من كأس الخلود الحضاري لباني المسيرة الظافرة، وحقَّ لنا أن نُجلجِل أقدامنا وأيدينا تصفيقاً وتعظيما للقائد الوالد، وحقَّ للجميع أن يُقلِّدوا التاريخ وساماً خالداً ويُطربوا العالم بسمفونيتهم الهادئة الصامتة ويغنوا أوركسترا التضحية والفداء الحقيقي بعيداً عن الهُلامية والنفاق.
كل عام وعُمان تزهوا بالخير والسؤدد
بقلم/ سلطان بن خميس الخروصي