مسقط- العرب أونلاين: د. حسين شحادة
لعل التجربة التي تعيشها السلطنة وهي تحتفل بالعيد الوطني الحادي والأربعين تمثل أنموذجا يكاد يكون منفرداً، حيث استطاعت أن تؤدي المطلوب والمرتجى من خلال سياقات ونماذج وحدود ملآت الدولة بالمفاهيم والمظاهر والممارسات الحديثة القائمة على الإيمان بأن لكل مجتمع مواصفاته وشخصيته وثقافته، والتي بدورها تضع الدولة على مسارات معينة ومحدودة، أقامت أسسا لبناء دولة عصرية تقوم على مفاهيم المشاركة الفعلية بين السلطة والمواطن، منطلقة من احترام قيم العدالة والمساواة ومن الرضى والتراضي والاطمئنان. وقد توج ذلك بتثبيت مبدأ الشورى وبانتقاله من مرحلة المنحة إلى مرحلة الحق بضمانة النظام الأساسي للدولة.
وحتى يتحقق ذلك اعتمدت القيادة أسلوب التوازن بين الإمكانات والطموح بشكل واع وبقراءة هادئة ومعمقة لكل ما يدور ويحدث محلياً وإقليميا ودولياً. وبالتالي فإنها سبرت واحترمت كل حقائق التطور والنماء مستلزماتها واستحقاقاتها.
لذا فقد تبلورت رؤية شديدة الوضوح فيما يتصل ببناء الدولة الحديثة وفق خطة متكاملة توفر للشعب الحياة الكريمة، ومعتمدة في الوقت نفسه على سياسة المراحل وإعطاء كل مرحلة حقها من الدراسة وإتمامها على خير وجه ثم الانتقال إلى المرحلة التالية.
وفي ظل الحكم الذي يسوس الحياة العامة في السلطنة نرى محاولة جادة وناجحة في تثبيت حكم ديمقراطي عادل رغم تعدد المكونات الاجتماعية والفكرية؛ أي أن العمانيين قد تجاوزوا توزيع قيم السلطة على الطريقة التقليدية.
لذا فقد احتلت الشورى باستيعاباتها الديمقراطية جزءاً كبيراً من توجهات الدولة بقيادة السلطان قابوس الذي بنى قنوات اتصال سجلت تميزا غير مسبوق على مستوى المنطقة وأجزاء كثيرة من العالم.
ولعل المثل الأوضح هو ما يقوم به السلطان من جولات سنوية تكاد تغطي كل أرجاء السلطنة، وعبرها يلتقي بكل قطاعات المجتمع غير الرسمية إذ إنه ينشئ اتصالا مباشراً مع المواطن العادي، الأمر الذي يشكل نوعا من أنواع البرلمان المفتوح، وهي صيغة فيها مكونات واسعة من مكونات الديمقراطية المباشرة.
هذا على مستوى السلطان شخصيا؛ أما على مستوى إقامة المؤسسات الشورية فقد حرص السلطان قابوس على إقامة هذه المؤسسات ضمن مراحل تستكمل الواحدة تلو الأخرى، مع التنبه الواعي والإدراك العميقين بأن القوانين يجب أن تتسم بالعقلانية وألا تصدر عن العاطفة غير المنضبطة.
وهذا ما قاد أعضاء مجلس الدولة وأعضاء مجلس الشورى إلى الحرص على تحاشي التسرع أو الاندفاع وسوء التقدير وهم بصدد قيامهم بوظيفتهم، إذ إن المطلوب منهم هو التفكير السديد والرؤية الثاقبة والقراءة المعمقة والابتعاد عن الجدل في شتى مراحل العمل في المجلسين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى بما أن القوانين والقرارات تسري على أفراد الشعب فلا بد أن يشاركوا بصورة أو بأخرى، وبمختلف أطيافهم، في صياغتها، حتى تجيء القوانين تعبيرا صادقاً عنهم.
إن وظيفة الدولة الحديثة تقتضي تحقيق قدر كبير من التوافق والانسجام بين أجزائها، ابتداء من تكوين المؤسسات، مروراً بتنظيم صلاحيات هذه المؤسسات، وانتهاء بالمخرجات إلى أهدافها النهائية والمخطط لها والمرجوة في الوقت نفسه.
وهنا لا بد من الإشارة إلى المفاهيم السياسية الحديثة والمدارس الفكرية المعاصرة التي ترى أنه كلما ارتفع مستوى المشاركة الشعبية في القرارات العامة للدولة، كلما قرب النظام السياسي من الديمقراطية التي أصبحت تنشدها كل المجتمعات والدول والشعوب. وهذا ما ركزت عليه السياسة العامة للسلطنة منذ تولي السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم في البلاد، حيث تجسد ذلك أول ما تجسد في إنشاء المجلس الاستشاري للدولة عام 1981م، عقبه بعشرة أعوام مجلس الشورى، وما رافق ذلك من خطط تنموية طويلة الأجل، ثم إصدار النظام الأساسي للدولة في نوفمبر عام 1996م، الذي تميز بتوسع المشاركة السياسية لكل مكونات المجتمع.
وهكذا فقد أجادت القيادة فهم الديمقراطية الحديثة، بل إنها قد ذهبت في فهمها وممارستها أشواطاً أكبر في العديد من الممارسات والاجتهادات. فلقد شكل البرلمان المفتوح الذي عمل به السلطان منذ توليه مقاليد الحكم في البلاد صورة متقدمة لمعنى التواصل بين السلطة والمواطنين، وبذلك بدلاً من أن يذهب المواطن إلى ولي الأمر فإن القيادة نفسها هي التي ذهبت في اتجاهه، وانتقلت من مكاتب الإدارة القائمة على الأساليب التقليدية إلى الإدارة القائمة على أرض الواقع.
إن اهتمام السلطان الدائم ومتابعته لنمو وازدهار الديمقراطية في بلاده هما على قائمة أولوياته حيث يقول: “تابعنا بكل اهتمام هذه المسيرة المباركة، وراقبنا تطوراتها بكل عناية، ونحن ننظر بارتياح للكيفية التي تتقدم بها هذه التجربة على درب النمو المتلاحق الذي يقوي بنيانها ويدعم أركانها ويوطد قواعدها ويثبت القيم والمبادئ التي أنشئت من أجلها؛ وإيمانا منا بما تشهده السلطنة، ولله الحمد، من تطور مستمر في شتى المجالات ومواكبة مدروسة لمعطيات العصر واستشراف دائم لآفاق المستقبل فإننا نتطلع إلى إن يقوم مجلس عمان، بشكل عام، ومجلس الشورى على وجه الخصوص، بمهام ومسؤوليات أكثر شمولا في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، آملين أن تكون الخبرات المكتسبة دافعا لتقديم المزيد من العطاء المفيد البنّاء خدمة لهذا الوطن العزيز الذي يبني بكل عزم وثبات حاضره، ويتطلع إلى مستقبله في ضوء متطلبات عصره المتنامية وثوابته الراسخة. ومن هذا المنطلق سوف نحث حكومتنا على رفع مستوى التواصل وتكثيفه مع مجلس عمان بما يمكنه من القيام بواجباته وأداء مهامه على أفضل وجه”.
يقوم مفهوم “الدولة” الحديثة على مقاييس ومواصفات واسعة التطور والتقدم، لعل أهمها مبدأ المشاركة السياسية المبنية على تنمية سياسية شاملة وواعية ومدركة لأبعاد الحق والواجب، ومحيطة بسلامة العلاقة بين الأطر والكوادر الرسمية وبين المواطن. وحتى يتحقق ذلك من الضروري الأخذ بكل أسباب الانفتاح والتواصل وإحاطة قنواتها بكل الاهتمام والحرص والجدية.
لقد فهمت القيادة العمانية كل ذلك ووعته وأدركته، ولكنها- ولعل هذا ما يميزها عن الكثير من التجارب الراهنة قد استطاعت أن تدرس الإمكانات والمقدرات والمعطيات والواقع ثم زاوجت بينها وبين التحرك نحو الحداثة، فجاء الأمر على نسق عماني خاص ارتكز على الأمل في تحقيق الأهداف والتعاطي مع الحاضر والمستقبل بسلاسة ونجاح، ولكن دون انتزاع الذات من حقائق الدين والموروث وثوابت التاريخ ومحددات الجغرافيا والاقتصاد، ودون الابتعاد بحجة التطوير عن التقاليد والعادات والأعراف الاجتماعية والفكرية السليمة.