علاقتي بسلطنة عُمان ليست طارئة ولا عَرَضيَّة. هي بَدَأتْ بسماعي لخطاب سلطاني مُختلف شدَّني لصاحب المقام. ثم تعضَّدت تلك العلاقة بعد زيارة سياحية خالِدَة لجنوب السلطنة حيث مدينة صلالة المُترعة بخريف مُذهَّب. ثم بقراءة تراث عُمان وسياساتها وفكر زعامتها. هكذا وجدتُ نفسي مُواكباً لهذا البلد وأحداثه ومسيرته الداخلية والخارجية.
وقد وجدتُ وخلال تلك المواكَبة أن أكثر ما يُمايز شؤون هذا البلد عن غيره من البُلدان هو أنني وكلما قرأت شيئاً عنه أو بشأنه أو حوله تنبت لدي فكرة ما تستوجب الكتابة، ثم تدفعني بشكل آلي لرؤية مشهد خلفي لهذا البلد، فيه من الأسرار والخفايا والربط والعلاقة مع ملفات أخرى ما يفيض. هذه مقدمة لازِمة وودتُ أن أستهلّ بها المقالة قبل أن ألِجَ الموضوع.
مؤخراً تابعت باهتمام ما جَرَى في سلطنة عُمان وبالتحديد في ولاية صحار واعتصاماتها. ثم تابعت باهتمام أكثر حزمة المراسيم السّامية التي أصدرها جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظّم سلطان عُمان بُعيد ذلك والتي حاكَت تلك الأحداث بشكل صميمي ومباشر، بعضها كان معيشي صرف وآخر سياسي يخصّ التشريع والمراقبة وتنظيم شؤون الدولة.
وما بين الاهتمامَيْن المذكوريْن أجِدُ نفسي مُلزَماً بقراءة الفعل والفعل المستجيب له بطريقة سياسية موضوعية لا دخلَ لها بالعواطف ولا الاجتزاء، خصوصاً وأن السلطنة (وعلى رأسها جلالة السلطان) أدرَكَت جيداً ومبكراً هذه الصيغة من العلاقة ومتطلباتها المُلِحَّة. إدراكٌ فيه مراعاة واضحة لمرحلة حسّاسة ودقيقة جداً تمر بها المنطقة العربية، ويمرّ به أيضاً مفهوم الدولة ونشاطها الحقوقي.
ما يجب أن يُدركه العُمانيون الأعزّاء على قلوبنا (وأخالُ أنهم يُدركون ذلك حقاً) أن إشكال التظاهر في حدّ ذاته هو مجال مشروع من مجالات التعبير عن الرأي، ولكنه أيضاً يعتبر من الأنشطة التي لا يستطيع فيها المطلق أن يتحوّل إلى شيء مُحدَّد بسبب تعدد مظاهر الاحتجاج الخاضعة بالأساس إلى تنوُّع الأفراد واتجاهاتهم وميولهم وإلى حجم الكتلة البشرية التي تمارسه وعدم القدرة على الإمساك بحِراكها أو حتى توجيهه، وهو ما رأيناه في العديد من تجارب التظاهر في العالَم عندما حادَت عن أهدافها وجَنَحَت إلى الصِّدام والعنف.
في المقابل تمسِك الدولة (وهي كذلك في العادة) بخيط الربط في ذلك النقيض/ التقابل، فتعيد ذلك المطلق الهلامي غير المحدود إلى صِيَغ مُحدّدة من الأفهام والنشاط السياسي والتشريعي والقانوني الذي يُسَكِّن من اندفاع الجماهير نحو التظاهر والتجمهر. فالدولة هي بالأساس قيمة سيادية تدير السلطة والقوة المادية لديها عبر مؤسسات دستورية ناظِمة تؤمِّن عدم حصول انشطار سياسي وقانوني واجتماعي واقتصادي وحماية لمناشط المجتمع/ الدولة.
من هذا الجانب يحرص الحريصون على أمن سلطنة عُمان العزيزة وعلى مستقبل شعبها الكريم المعطاء على فهم هذه المعادلة الدقيقة في علم السياسة. وإذا ما تمّ هذا الأمر فإن اللازم الموالي لذلك الفهم هو إعطاء قيمة التظاهر حقه الطبيعي القائم على أمرين اثنين: الأول: إبداء الاعتراض بسقفٍ معلوم في زمانه ومكانه ومداه وبلا إطلاق. والثاني: إيصال رسالة مُحدَّدة ومفهومة ومعقولة وبلا ديماغوجية الى أيّ جهة كانت.
ضمن هذين الأمريْن المهمين يُصبح الاستغراق في موضوع التظاهر وبسقف حدُّه السماء وبلا نهاية أمرٌ بالغ الخطورة. فهو يُفضي إلى صناعة ظروف سالبة تقتطع من قوة الدولة الناشطة عبر مؤسساتها لتمنحها بشكل خاطئ إلى مجموع بشري غير محكوم لا من ناحية المشاعر السياسية ولا السلوك الفردي/ الجماعي الذي قد ينفلت بتصرف غير محسوب من الآحاد ليجرّ خلفه زلات سياسية واجتماعية وأمنية. وهو ما يعني باختصار تخلخل في الوظائف العامة ومعها الحالة الأمنية.
الأمر الآخر الذي يجب أن يُدرَك هو أن بيروقراطية الدولة (في كلّ العالَم) وتشعب وظائفها وتتابع هيئاتها وارتباط بعض مناشطها بعمل هيئات أخرى هو أصل عِلّتها، بالإضافة إلى اتصالها بقاع اجتماعي واقتصادي مُركّب ومختلف القناعات ومتشابك المصالح وذي ميزان حسّاس للقوى سواء داخل الدولة أو المجتمع بل وحتى بالإقليم الأوسع، وبالتالي فإن ذلك التعقيد لا يجعلها قادرة على تحقيق الاستجابات الفوريّة لأي حاجات أو مطالبات كانت. ليس ذلك تبريراً مني لأي تقصير قد يحدث في أيّ دولة لكن منطق الأشياء يُؤكّد على ذلك، وتجارب الأمم والشعوب والدول دلّت على أن تلك العوامل هي ذات صلة حقيقية ورئيسية بالدولة ونشاطها.
أضيف إلى ذلك أن الدول تسير وفق عُمر ومراتب زمنية يجب عليها أن تستوفي كلّ مرحلة من مراحلها بشكل مُشبَع. وقد أظهر التاريخ لنا جيداً أن الدول التي حاولت أن تحرق المراحل وتقفز على الزمن أو على منطق التطور الطبيعي هَوَت ولَم تنهض، سواء أكان ذلك القفز تحولٌ في السياسة أو في الاقتصاد أو حتى فيما خص الحالة المجتمعية ومكوّناتها.
لقد أعلنت الولايات المتحدة استقلالها في العام 1776م لكنها لم تُعط حقاً للنساء بالانتخاب إلاّ بعد 133 عاماً. واليوم ورغم مضي أكثر من 235 عاماً على قيام الولايات المتحدة ما زالت نسبة تمثيل النساء في الكونغرس لا تزيد عن 15 بالمائة. والأكثر من كل ذلك هو أن المزاج القانوني والحقوقي والاجتماعي داخل الولايات المتحدة الأمريكية (شعبياً ورسمياً) لم يستوعب أن يحكم الجمهورية رجل أسوَد (أو حتى رجلٌ خُلاسي) إلاّ بعد 43 رئيساً كما في حالة باراك أوباما.
بالتأكيد فإنني أقول ذلك وأنا متيقن بأنه لا مجال للقياس هنا ولا للمَقيَسَة حتى، وإنما العُمدة فيما أقول هو إدراك حقيقة تحوّل الدول وتطورها من حال إلى حال. كما أن ما ذَهَبتُ إليه هو متعلق بالأساس بالدولة التي أثبتت تجاربها أنها فعلاً تسير على الجادَّة وخطط التحديث والتطوير بنَحتٍ على الصَّخر، وأحسب أن سلطنة عُمان هي كذلك، رغم أنها لم تكن وقبل العام 1970 بمستوى دولة متكاملة إلى أن تولّى جلالة السلطان قابوس بن سعيد الحكم وبنى الدولة العُمانية ورفعها بنهضة ناجزة بالرغم من الصعوبات والمعوقات.
هنا أنا لا أنظر إلى دولة صَمَّت آذانها أمام مُطالِبِيْن من شعبها بل بالعكس، إنني أنظر إلى الإجراءات المتلاحقة التي اتخذتها السلطنة وقيادتها كفعل مستجيب للحالة المطلبية للمعتصمين بكل إيجابية وهو ما يُفتَرض أن يعيه الجميع، وأن ينظروا إليها بواقعية وتقدير وإكبار. وكان يُمكن للدولة بما تملكه من أدوات مادية أن تُرحّل كل هذه الأمور إلى مستقبل منظور أو غير منظور، لكنها آثرت الحوار معهم والتطوير ومُحاكاة الواقع بكلّ قوَّة وعزم.
فصدور مرسوم سلطاني لتعديل مسمى جهاز الرقابة المالية للدولة وتوسيع اختصاصاته وتعيين رئيس له، ثم صدور ثلاثة مراسيم بشأن تعيين وزير لديوان ووزير للمكتب السلطاني وللأمانة العامة لشؤون البلاط السلطاني، ثم مرسوم آخر أحدَث تغييراً وزارياً كبيراً طال زهاء اثني عشر وزيراً، ثم مرسوم آخر بتعيين رئيس لمجلس المناقصات، ثم مرسوم آخر بشأن منح مجلس عمان الصلاحيات التشريعية والرقابية، وتشكيل لجنة لتعديل النظام الأساسي للدولة.
بالإضافة إلى تخصيص 50 ألف وظيفة ومنح 150 ريالا لكل باحث عن العمل، وزيادة قيمة المعاشات الشهرية المقرّرة للأسر المستفيدة من أحكام قانون الضمان الاجتماعي بنسبة 100 بالمائة، وذلك اعتباراً من شهر إبريل 2011، وزيادة قيمة المستحقات التقاعدية الشهرية لجميع الخاضعين لقانون معاشات ومكافآت ما بعد الخدمة لموظفي الحكومة العمانيين، والقطاع الخاص ايضا وبنسبة تصل إلى 50 بالمائة للفئات المستحقة لأقل معاش تقاعدي.
لذا فإنني هنا لا أستطيع أن أقرأ هذه الاستجابة من الدولة بشكل سلبي. بل على الجميع أن يُدركوا تجارب أمم أخرى لم تتحقّق لهم مثل هذه الأمور لا من حيث الزمن ولا من حيث الحجم ولا من حيث الكيفية. فما بين الثالث من مارس المنصرف وصدور المرسوم السلطاني رقم (27/2011) وما بين السابع والعشرين من ذات الشهر وصدور المرسوم رقم (52/2011) نحن أمام 25 مرسوماً سلطانياً صدرت في بحر 24 يوماً فقط؛ أي بمعدّل اكثر من مرسوم سلطاني سام قد صَدَرَ خلال تلك الفترة يومياً وتضمّنت العديد من التطوير والتحديث في الدولة.
أقرأ كذلك مدى تحقق مقولة آلة الرئاسة سِعة الصَّدر في القيادة العُمانية. فلم تلجأ السلطنة إلى أسلوب غير الذي انتهجت، هذا هو الواقع أمامنا وكذلك التاريخ والتجارب.
ولا أحسب أن شيئاً يمكِّننا من رؤية الأشياء بشكل واضح أكثر من التجارب والتاريخ وقراءة الواقع، ولأن السلطنة قيادة وشعباً هي في قلوبنا وقلوب كلّ خليجي أقول ذلك بكلّ صدق أن هذا البلد هو فريدٌ في مُسمَّاه وقيادته وفي سياسته ونهضته وتحديثه فليحافظ الجميع عليه، وليقف هذا المجموع مع جلالة السلطان المعظم الذي انتشل عُمان من اوضاع لا يعلَم قسوتها سوى الآباء الذين عاصروا تلك الفترة، ثم قادها باقتدار نحو مصافّ الدول الحديثة والمتطورة، وهو أمر لا يُمكن أن تُخطؤه الذاكرة ولا العَيْن المُجرَّدة فضلاً عن شهادات العالَم.
====================
محمد عبد الله محمد – كاتب بحريني