الدول لها شخصياتها كما للبشر. فكما هناك دولٌ فقيرة وأخرى ثرية، ودول متقدمة وأخرى متخلفة، فإن هناك دولاً متوترة، وهناك دولٌ متعصبة، وهناك دولٌ عاقلة. وهناك دول عدوانية وأخرى مسالِمة. ولو مرَّرنا هذه القاعدة على أزيد من مئتين وخمسٍ من الدول حول العالم، سنلحظ ذلك جيداً. ثم الأهم، أنه وكيفما كانت الدولة وبأي شاكِلَة، كانت سمعتها أيضاً.
ولِمَن يدرك طبيعة العلاقات الدولية، فإنه سيدرك ماذا تعني سمعة البلدان، بالنسبة لاقتصادياتها ومكانتها الدولية، وأيضاً قدرتها على لعب أدوار سياسية خارج حدودها. وربما يكون هذا الكلام مفهوماً وضرورياً، ونحن نعيش في منطقة، لم تشهد الاستقرار والهدوء منذ زمن بعيد، بل عاشت على أثير السياسات المتوترة، والصراعات الإقليمية بلا جدوى ولا منفعة.
نقول هذا الكلام وعيننا على تجربة سلطنة عُمان، فيما خصَّ سياستها الخارجية، وتطبعها بالهدوء والاتزان وعدم التدخل في شئون الدول، ومحاولة الصلح بين المتخاصمين، والشواهد على ذلك كثيرة، من الوساطة ما بين العراق وإيران لإنهاء الحرب في الثمانينيات، إلى الوساطة بين السعودية وإيران في العام 1990، ووساطتها في اليمن بين الرئيس ونائبه في العام 1994، فضلاً عن الوساطات الأخيرة، بين الأميركيين والإيرانيين فيما خصّ إطلاق سراح سجناء لدى الطرفين.
أصِل لحظة ذاكرة القارئ الكريم، بحدَثٍ مضى عليه الآن أزيد من ثلاثين عاماً. ففي شهر إبريل/ نيسان من العام 1983، قام السلطان قابوس بن سعيد سلطان عُمان بزيارة رسمية إلى الولايات المتحدة الأميركية، تلبية لدعوة من الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان.
وأثناء الزيارة، وخلال مرور السلطان قابوس بجانب جَمهَرَةٍ من وسائل الإعلام العربية والأجنبية، سأله أحد الصحافيين (وفق ظروف تلك الفترة التي كان العالم يشهد فيها حرباً باردة): هل تمَّ بحث التوسع السوفياتي في المنطقة؟ أجاب السلطان: «لم نتطرق لذلك. هناك أمورٌ تهم الولايات المتحدة الأميركية وعُمان أكثر من التطرق إلى أمور تخصّ أناساً آخرين».
الحقيقة، أن هذه الإجابة، وبعد كل هذه السنين، لازالت السياسة الخارجية لعُمان تصطبغ بها: «عدم التدخل في شئون الآخرين وإقرار السِّلم وفض النزاعات». سياسات أثَّرت على صورة عُمان والعُمانيين أمام العالَم، بدوله ومؤسساته العالمية.
فالعلاقة هنا طرديَّة بامتياز، ما بين انتهاج سياسة خارجية هادئة، وتوفيقية، وتصالحية، ومع الإقليم والعالم، وبين شخصية الدولة. فكلما توطدت وترسَّخت تلك العناوين في السياسة الخارجية لأي بلد، تحسَّنت صورته أمام العالم، وأثر ذلك على شعب تلك الدولة، ونشاطه السياسي والاقتصادي والثقافي، والعكس صحيح أيضاً. وعندما نُسقِط ذلك الأمر على الحالة العُمانية، سيتضح لنا ذلك بشكل واضح.
فسياسة عُمان الخارجية، التي تتسم بتلك العناوين، انعكست بشكل مباشر وإيجابي على صورة داخلها، فمَنَحَت عُمان والعُمانيين سمعة جيدة في العالم (وهم يعيشون في هذا الإقليم الملتهِب والمصنَّف)، بحيث أصبحت عُمان اليوم، مقصداً للوساطات بين الدول المتباينة والمتعادية، وبالتالي تحوُّلها إلى بيضة قبَّان أمام العديد من القضايا الإقليمية والدولية.
لقد أصبحت الذاكرة السياسية عند الجميع، من دول وشعوب ومؤسسات، مُدركة أنها لم تُسجِّل دخولاً للسياسة الخارجية العمانية في أيٍّ من الخلافات مع دول الجوار أو الدول البعيدة حتى، أو أنها انزلقت في مهاترةٍ معها، سواءً في التصريحات أو التقابل السياسي، أو أنها دخلت في حالة اصطفاف ضمن معادلة: الـ «ضد» والـ «مع». هذا هو واقع السياسة العُمانية بدون رتوش.
أربعون عاماً وثلاثاً من السنين، تخطَّى فيها العُمانيون رقاب الأزمات العربية العربية، التي ضَرَبَت مساحة تقدر بـ 14.291.469 كلم² (هي مساحة العالم العربي). ولم يتورَّطوا في اصطفافاتها السياسية، على الرغم من حجم الضغوط عليهم كدولة فتية (خلال العقد الأول من السبعينيات)، فلم تكن فيها عُمان لا أداة دعائية مناكفة، ولا أداة سياسية مُنفِّرة، ولا أداة دبلوماسية مُنحازة، ولا أداة عسكرية مشاركة، ولا أداة اقتصادية ضاغطة، بل على العكس، كانت ذات سياسة متوازنة وتوفيقية وعقلانية، والعالم العربي يعيش صراعات محمومة.
لنا أن نتخيَّل، أنه وفي العام الذي بدأت فيه النهضة العُمانية (1970) شَهِدَ العالم العربي أربعة عشر نزاعاً عسكرياً. وفي العام 1971م وصلت المناوشات العسكرية العربية العربية إلى خمسة عشر نزاعاً عسكرياً. وفي العام 1972، كان هناك خمسة نزاعات عسكرية عربية عربية، وفي العام 1973، كان هناك تسعة نزاعات، وفي العام 1974، كان هناك نزاعان عربيان مُسلَّحان.
وفي العام 1975، كان هناك ثمانية من المناوشات العربية العربية المسلحة. وفي العام 1976، كان هناك تسعة عشر نزاعاً، وفي العام 1977 كان هناك نزاعان، وفي العام 1978 كان هناك ستة نزاعات، وفي العام 1979 كان هناك خمسة نزاعات، وفي العام 1980 كان هناك أربعة نزاعات، وفي العام 1981 كان هناك تسعة نزاعات، أي بمجموع 133 من المناوشات العسكرية العربية العربية (كما أحصاها الكاتب أحمد يوسف أحمد في كتابه «الصراعات العربية العربية») لم تتورط سلطنة عُمان فيها.
والحقيقة، أن هذا النأي العُماني، عن السياسات الخارجية الموتورة، والمتشنِّجَة، تدفعنا للوقوف على هذه الثقافة السياسية، فيُحيلني تلقائياً إلى النظرة المقابلة لها، والتي سادت في القرن الرابع عشر في أوروبا، حين اعتُبِرَت «الرغبة في القتال، دفاعاً عن حرية الإنسان، وجزءًا من الواجبات المدنية العادية للإنسان» ثم دَحْض ذلك حين اعُتبِرَت «الحرب مضادة كلياً للمُثُل العليا» فـ «صوت القانون لا يُسمع وسط قعقعة السلاح»، كما جاء في كتاب «أسس الفكر السياسي الحديث» لكوينتِنْ سكنر.
غاية الأمر ومنتهاه، أن السياسة الخارجية لسلطنة عُمان متمايزة منذ حرب الخليج الأولى ولغاية الساعة. واليوم، نرى مواقفها من القضايا الرئيسية جليَّة جداً: لا توتر مع الضفة الشرقية للخليج. لا خيار غير الخيار السلمي في سورية. علاقات متوازنة مع الجميع وإزالة بؤر التوتر في المنطقة. فاليوم المنطقة العربية (والإسلامية)، تحتاج إلى تعزيز سياسات الهدوء والدفع باتجاه المصالحات، وتبديد المخاوف لأننا نعلم مآلات النزاعات السياسية فضلاً عن العسكرية، والتي كلَّفت وستُكلف الدول المتناحرة الكثير، من خسائر بشرية واقتصادية.
محمد عبد الله محمد
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4083 – الإثنين 11 نوفمبر 2013م الموافق 07 محرم 1435هـ