أخرَجَ الأمير أبو المظفر أسامة بن مرشد بن منقذ في لباب الآداب حديثاً لِمَلِكٍ يقول فيه: “إني ضبطتُ مُلكِي فلم أهزَل في أمرٍ ولا نهيٍ قط، وأعطيتُ للاكتفاء لا للرضى، وعاقبتُ للأدب لا للغضب، وعممتُ بالعدل والإنصاف، وكففتُ يدي عن دمائهم وأموالهم إلاَّ بحقها”. وأخرج بن عبد ربه في العقد الفريد أن مَلِكَاً (هو ذات الأول) غضِبَ على رجلٍ من أصحابه، فأمر بحبسه وقطعِ ما كان جارياً عليه، فقال له وزيره: إن الملوكَ تؤدِّب بالهجران، ولا تعاقب بالحرمان”.
هذه الحِكَم والمأثورات دوَّنتها كتب السِّيَر والتاريخ كعلامة بارزة على أهمية إدارة الحكم وليس الحكم في حدّ ذاته. فأن تكون حاكماً شيء وأن تكون مُديراً لحكمك بدراية وحصافة شيء آخر. وقد أبرَزَ التاريخ نماذج لحكَّام فاشلين أوقعوا بلدانهم في أزمات سياسية واقتصادية سارت بهم إلى التهلكة، فدمَّر نيرون روما على رؤوس ناسها، وأحرق هتلر ألمانيا تحت وَهْمِ الرايخ الثالث، وآخرين حالفهم النجاح في أمر الداخل والعلاقة مع الخارج لأنهم كانوا قادرين على إدارة حكمهم، بالعقل لا بالانفعال، رأينا ذلك في أوربا الأنوار وفي آسيا القديمة حتى.
في السابع عشر من مايو المنصرف أجرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية (العدد 11858) حواراً مُطوّلاً وهاماً مع الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية العماني معالي يوسف بن علوي بن عبد الله. الوزير العُماني تطرق خلال اللقاء إلى موضوعات كثيرة تشغل الساحة العربية، كمنصب أمين عام الجامعة العربية وإمكانية تدويره بعد خمس سنوات، وعن الدور المصري الجديد، وتوسيع عضوية مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والعلاقات الخليجية الإيرانية المتوترة، وعن شأن الداخل العُماني، وعن عملية السلام المتعثرة بين العرب وإسرائيل.
من بين 1804 هي مجموع كلمات الحوار المطوّل المذكور فقد شدَّتني بعض الكلمات من الوزير العُماني دون غيرها عندما سألَته الصحفيّة عن مطالب الشباب العُماني وربطها ذلك بالاحتجاجات التي شهِدتها ولاية صحار (200 كم شمال العاصمة مسقط) قبل أشهر. الوزير قال: “ما لم يعلمه أحد ولم يُنشر بعد أن جلالة السلطان قابوس (بن سعيد المعظم سلطان عُمان) يلتقي يومياً بعشرات الشباب، وأن أحد أهم الأسباب التي دفعت قائد البلاد لهذه الخطوة هو الاطلاع على آراء الشباب وعدم المساس بهم لا من أجهزة الأمن ولا من الحكومة؛ لأنهم على صلة بالقائد السلطان قابوس بن سعيد في حوار فكري يستوعب التغيير والتنمية والنهضة العمانية التي بدأت مسيرتها منذ أربعين عاماً”.
هنا، لا داعي لأن أتزلَّف أنا أو غيري حول ما قاله الوزير العُماني، لكن الدَّاعي الصحيح مني أو من غيري هو التعليق وإبداء النظر. فمثل هذا الأمر (اللقاء اليومي المباشر بين أعلى هرم الدولة وقاعها) لا يحدث في دولنا العربية عادة. وهو إن حَدَث فإنه يكون خاطفاً ووحيداً ولِغَرَضٍ بعينه، حيث يظلّ الإعلام الرسمي يتعبّد به صباح مساء، حتى لكأنك تحسبه أبو الأحداث كلها وبلا منازع. في الحالة العُمانية لا يبدو الأمر كذلك. فالوزير أفصح عن أمر لم يكن يعلمه أحد، وهو ما يعني أنه ليس خبر علاقات عامة (PR) أو حالة برتوكولية معينة يبتكرها القيِّمُون على الحكم بغرض الاستحلاب، أو التغطية على أمور أخرى لا يُرَاد لها أن تظهر، وإنما هي خطوة جادَّة ومسؤولة وعاقلة صادرة من شخص يُشار له على أنه من ذوِي الحِجَا.
فما يقوم به جلالة السلطان وذكَرَه الوزير العُماني هو إعادة تفسير للحِراك الاجتماعي والسياسي السِّلمي. هو ينظر إليه على أنه سِجال أفكار ينضَّح بها جيلٌ شاب مكنوزٌ بالمشاعر والانفعالات والرؤى، وبالتالي فهو يرى أن التحدِّي هو خارج لغة الأكتاف والقوَّة العضلية والعصبيّة، لذا فهو يُعيدها إلى مكمنها ووعائها الأول وهو العقل. وهو استيعاب نادر من جلالته لم نَرَه يحدث في التعاطي مع الحِراك الذي يجتاح منطقتنا العربية وفعله المضاد الذي لم يكن في الغالب يُغادر المعالجات الحادَّة والمتوترة والتي عادة ما تزيد من التعقيد.
لقد تحدثت عن ذلك في مقال سابق، وقلت حينها بأن تلك السِّعَة السلطانية في الفكر والقلب تمنح البَلَد ضمانة أكثر من الأمن الاجتماعي، والتنمية الحقيقية وانتظامها المستمر. فالاستيعاب الشامل للمحيط البشري/ الاجتماعي والسياسي والديني والثقافي هو كاستيعاب أكبر مساحة من الجغرافيا والأرض التي تُتيح للبُلدان عادة استحصال قدرة استراتيجية أمتن، وموارد طبيعية أكثر، وحدود جغرافية أكبر وهو حال السلوك السلطاني.
أيضاً فليس الأمر منحصر ضمن هذا السَّياق الظاهري للفعل السلطاني/ العُماني فقط، وإنما هو يعكس إعادة الإنتاج الاجتماعي الذي تقوم به الدولة العُمانية والمتعلق بوظائفها ودورها تجاه المجتمع وحركته وتغيُّراته. تَحَدَثَ عن ذلك بالتفصيل الفيلسوفان البُنيويان لويس ألتوسير وميشيل فوكو. الأول تحدث عن نوعين من الأجهزة التي تسَيّرها الدولة، وهي أجهزة القوة المادية (الجيش، الشرطة) والأجهزة الآيدلوجية (المدرسة، الكنيسة، ووسائل الإعلام) وما تقوم به من دور في احتكار للعنف الرمزي التي تمارسه الطبقة السياسية الحاكمة الماسكة بالدولة تجاه المجتمع المدني.
أما فوكو فكان يتحدث عن مفهوم جديد للسلطة عبر تحويلها إلى خارج مفهوم الإكراه الذي يُمارَس على غير الحاكِمين، أو الذين لا يملكونها مثلما كان يقول. بل ذهبَ فوكو إلى أن السلطة الحقيقية هي التي تتحوّل إلى عملية استثمار واستناد متبادل ما بين الحاكم والمحكوم في التصدي للمخاطر المشتركة سواء من الخارج أو من ذاتيتهما حتى وهي التي لا يُنزِّهها عن التغوُّل شيء أحياناً بسبب القوة التي تمتلكها، وبالتالي إبعادها (السلطة) عن الإقصاء والمنع والقهر.
هذان الموقفان استحضرهما لقراءة ذكاء وحصافة جلالة السلطان وهو يُدير السلطة العُمانية التي كان يُمكنها أن تستخدم الجِهازَيْن اللذان ذكرهما ألتوسير (القوة/ الآيدلوجيا) في فرض هيمنتها المادية على المجتمع، لكن جلالته لم يفعل، وأيضاً كان يُمكن لجلالته بسبب هامش الدولة القوي أن يجعل التبادل الذي ذكره فوكو ما بينها وبين المجتمع بشكل أحادي، وبالتالي تفقد الدولة مفهوم الشراكة البينية لكن جلالته أيضاً لم يفعل وأبقى على خلاف ذلك، وهو سلوك حُكمٍ رشيد لا يحتاج منا كمُراقبين وصحفيين إلى هزَّة كتف فقط، وإنما إلى رصد ومتابعة وتحليل وربط وخلاصات بقلم زكاته في أن يكتب ما ينفع الناس.
هنا أتذكر ما قاله الشاعر الأميركي المبدِع روبرت فروست عندما قال: إذا لم يذرف الكاتب العَبَرات فلن يذرفها القارئ، وإن لم يتفاجأ الكاتب فإن القارئ لن يتفاجأ. وها نحن نذرف العَبَرَات ونتفاجأ لكي يُشاطرنا القارئ الكريم ما نحن فيه. فما قلته لا يُقال إلاّ بوصفه حقاً وشهادة يجب أن لا تحجَب، لأختم حديثي بما قاله حكيم من العرب وهو أكثم بن صيفي التميمي بأن “أفضل الأشياء أعاليها، وأعلى الرجال مُلوكها، وأفضل الملوك أعمها نفعاً”.
15 يونيو 2011