بالرغم من أن فترة العقود الأربعة الماضية من عمر مسيرة النهضة هي مدة قصيرة في عمر الشعوب وبمعايير التطور الاقتصادي والاجتماعي المعروفة، إلا أن ما تم إنجازه على صعيد بناء الدولة العصرية، دولة المؤسسات وحكم القانون هو في الواقع إنجاز كبير وملموس ويعود الفضل الأول فيه إلى باني نهضة عمان الحديثة السلطان قابوس بن سعيد وإلى فكره المستنير، وإلى ما وفره منذ بداية انطلاق المسيرة من فرص واسعة ومتواصلة لكي يساهم المواطن العماني، شباناً ورجالاً وشيوخاً، رجالاَ ونساءَ، في إعلاء صرح الدولة العصرية، وبكل السبل التي يمكنهم المشاركة من خلالها، بما في ذلك الإخلاص والتفاني في العمل وأداء الواجب وحق الدولة والمجتمع على النحو الذي ينبغي أن يكون في أي موقع يكون فيه المواطن العماني.
جدير بالذكر أن مسيرة النهضة العمانية الحديثة، التي استطاعت حشد كل طاقات أبناء الوطن الأوفياء، أكدت ومنذ اللحظة الأولى وبكلمات سامية على المواطنة العمانية وعلى أهمية وضرورة الاعتزاز والفخر بها والمساواة في إطارها، فعمان أم تحب كل أبنائها، ولا تمايز سوى بالعمل المخلص والعطاء الجاد والتفاني من اجل مصلحة الوطن والمواطن.
الآن وبعد الأربعين عاماَ تقف الدولة العمانية العصرية التي شيدها قابوس، راسخة، قوية، وشامخة، تحقق الخير والتقدم والازدهار لأبنائها، وتمد يدها بالسلام والصداقة لمختلف الدول والشعوب على امتداد المنطقة والعالم طالما تبادلها نفس المواقف وأساليب التعاون لتحقيق المصالح المشتركة والمتبادلة وتعزيز فرص الأمن والسلام والاستقرار في هذه المنطقة الحيوية وعلى امتداد العالم من حولها.
وفي هذا المجال أكد السلطان على أن “لعمان تاريخاَ عريقاَ ومبادئ راسخة منذ عصور مضت وما قمنا به هو تأكيد تلكم المبادئ والتعبير عنها بلغة العصر ومن المبادئ الراسخة لعمان التعاون مع سائر الدول والشعوب على أساس من الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة وعدم التدخل في شؤون الغير، وكذلك عدم القبول بتدخل ذلك الغير في شؤوننا”.
نعم عمان دولة سلام، ولها إسهاماتها العديدة والمتواصلة والمؤثرة أيضا في هذا المجال، وهو ما تعرفه كل دول المنطقة ودول كثيرة أخرى من حولها، ولمن السلام الذي تعمل من اجله السلطنة هو في النهاية سلام الأقوياء، أي السلام القادر على الحفاظ على الحقوق والأرض والمنجزات وتوفير أفضل مناخ لتحقيق التقدم والازدهار في كل المجالات، وبناء أفضل العلاقات وأكثرها استقراراً وعمقاً مع الأشقاء في المنطقة والعالم، وقد أصبح ذلك واضحاَ للجميع وموضع احترامهم وتقديرهم أيضا.
وقد أوضح السلطان أن بناء الدولة العصرية تم بنسبة عالية، وأن هذا الأمر أنجز “من خلال خطوات مدروسة ومتدرجة ثابتة تبني الحاضر وتمهد للمستقبل”.
والنقطة الثانية في هذا الإطار التي أوضحها سلطان البلاد أن عمان الحديثة قامت تأكيداَ لتلكم المبادئ التي تأسست عبر التاريخ العريق، فقد أسس السلف العمانيون مبادئ راسخة، وما تم في واقع الأمر أن تلك المبادئ أعيد إنتاجها وفق لغة العصر كما ورد في الكلمة السامية.
وهذه النتيجة تكاد تلخص فكر النهضة المباركة، الذي قام على تلك الموازنة الأصيلة بين الموروث العماني والمستجدات العصرية، وهو ما أشار إليه السلطان بأن الكثير الذي أنجز كان “ضمن توازن دقيق بين المحافظة على الجيد من الموروث العماني الذي يعتز به أهل عمان ومقتضيات الحاضر التي تتطلب التلاؤم مع روح العصر والتجاوب مع حضارته وعلومه وتقنياته والاستفادة من مستجداته ومستحدثاته في شتى ميادين الحياة العامة والخاصة”.
وأكد قابوس دائماَ على الخصائص التي يتمتع بها الإنسان العماني، وأنها شكلت رافداَ من الروافد التي ساهمت في دفع مسيرة الخير، وبالتالي كان الاعتماد على الإنسان بوصفه مرتكز البناء الحضاري، هو جوهر رؤية الدولة العصرية.
ويؤكد السلطان على صقل الإنسان وحفزه بالمعارف العصرية وروح الزمن الحاضر بشرط ألا يخصم ذلك من الرصيد الأصيل والجيد الذي ورثناه من الأجيال التي سبقتهم.
وتتم هذه المحافظة عبر المضي نحو إيمان كل مواطن بمزيد من ترقية نفسه علما مع محافظته على إرث الأجداد من خلق وقيم، والسعي الدائم نحو الكسب الذي يمكن الفرد من تطوير مهاراته في الحياة وفي العمل، بحيث يكون أمام الأجيال المقبلة رصيداَ طيباَ من المثل التي تسير عليها والقدوة التي تحتذي بها، فصون المنجز هو عملية تقوم على الوعي به وكيف تمّ عبر فكرة وجهد وإخلاص وكدح، هذه المعاني التي يكون واجباَ أن تتأكد وأن تنقل إلى أجيال الغد.
وبمثل ما كان البناء والنهضة على مستوى الداخل، حافظت عمان بحكمة قائدها وسياسته الجلية على نسج علاقات متوازنه مع المحيط الإقليمي والدولي، وتبوأت مكانة بارزة في هذا الإطار، عبر تلك السياسة التي تقوم على “مبادئ راسخة من التعاون مع سائر الدول والشعوب على أساس من الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة وعدم التدخل في شؤون الغير، وكذلك عدم القبول بتدخل ذلك الغير في شؤوننا”.
إن ما تحقق على أرض عمان من بناء دولة عصرية ومؤسسية رسمت موقعها في الخارطة الدولية، لم يكن أمراَ سهلاَ، فالمعالي لا تدرك باليسر، فقد أشار السلطان في كلمته إلى أن الطريق لم يكن سهلاَ ميسوراَ “وإنما اكتنفته صعاب جمة وعقبات عديدة، لكن بتوفيق من الله والعمل الدؤوب وبإخلاص تام وإيمان مطلق بعون الله ورعايته من جميع فئات المجتمع ذكوراَ وإناثاَ تم التغلب على جميع الصعاب واقتحام كل العقبات”.
وهي سيرة تعلمنا كيف أن الحفاظ على المكتسبات يوازي عملية البناء من حيث العمل الدؤوب والمخلص على التنمية والتطوير وارتياد المستقبل عبر الشراكة بين جناحي المجتمع ذكوراَ وإناثاَ، وبتمرن الإنسان على الصبر واكتساب الخبرات في كيفية إدارة التحديات بحيث يتجاوز العقبات، فليس كل ما ينشده المرء يكون سهل المنال، ما لم تكن هناك الإرادة الجامحة والعمل الصادق والمخلص والتذرع بالمعرفة الكافية التي هي سمة العصر.
قد تم إنجاز نسبة يعتز بها الجميع في إطار التنمية الشاملة، ولا ريب أن عملية التنمية هي سلم متصاعد كل يساهم فيه ويرقى به درجات، وهذا أيضا يضاف إلى عظم المسؤولية التي يكون علي أجيال الحاضر الاضطلاع بها من أجل صون المكتسبات وترقيتها لأجل الأبناء والأحفاد ومن يأتون بعدهم بإذن الله.
إن التطوير عملية مستمرة، والمعرفة هي زادها وهو ما يتطلب منا المزيد من التأكيد على هذا المعاني بهدف التسلح للمستقبل، وإذا كان العمانيون يعيشون اليوم بفضل ما أسس له ورسخه السلطان من نعمة الأمن والاستقرار والرخاء والسلام، فإن الطريق إلى المستقبل يتطلب من كل مواطن العمل والتدريب والمضي في طريق النهوض المتواصل بكل همة ونشاط وحب.