“أبشرِي قابوسُ جاء” كلماتٌ بَدَت خَفِّيَة وخجولة مُنذ الصباحِ الباكر من يومِ (23/مارس)؛ فحديثٌ هُنا بعودةِ قلب الوطن النابض، وأخرى تدحضُ ما سبق بأنه لا يعدوا سوى أن يكون مَحضُ إِشاعةٍ وبهرجةٍ تَهوِي بقلوبِ العاشقين بين فرحٍ وترحٍ، تقاطرت شذرُ الأنباء الشاردة والواردة أن حبيبَ الشعب وباني عُمان الحديثة ستطأُ قدماه تُراب من تضلَّع بحبه حتى النُّخَاع لكنه بصحة لا تسمحُ له أن يُطلَّ على القلوب الصامتة التي ادَّخرت زمجرتها لتُسمع العالم بعد حينٍ بأننا نملكُ عُملةً فريدةً في التاريخ البشري الحديث؛ فانهمرت الدموع بين ترقبٍ وحُزنٍ وفَرحٍ لتسقُط القلوب بين رُدهات اللامعلوم وتُحبس الأنفاس تحت قدميَّ الانتظار الأليم، دقَّت ساعة الصفر لينبلج الضوء من عُمق الظُلمات، وتتفجَّرُ ينابيع السرور من بين أكوام الحُزن والكآبة، وتُمطر السماء بركات الله على أفئدة المكلومين والصامتين فيخرجون زُرافاتٍ ووِحداناً لتفتدي روح قابوس، صغيراً أو كبيراً، رجلاً كان أو امرأةً، فقيراً أو غنياً، مواطناً كان أم مسؤولاً ضجًّت حناجرهم وصل قابوس.. وصل قابوس..!، إذاً أضحى الخبر يقيناً، فتوشَّحت أرض مجان لباس العُرس الوطني، وخرج الصامتون بعاصفة الحب والولاء.
ما أعظم صمت العُظماء وما أجلَّ أعمالهم قبل أقوالهم، كُنا نسمع بين الفَينةِ والأخرى ونحن في ميدان الحقل التربوي كلمات النشيد الوطني حينما يصدحُ بها طلبتنا “..أبشري قابوس جاء..” لكنها لم تسترعي انباهنا ودلالتها العميقة؛ فلم نُعاشر مرحلة عُمان التي تطحنها الانقسامات الداخلية، ولم نمضغ كآبة العيش الكئيب، *فلم نُبصِر عُمان الهُلامية التي يحكيها لن السابقون من عرين هذا الوطن، أبصرت أعيُننا وأفئدتنا على رِواق هذا الجُزءِ من العالم وقد ترصَّعت عُمان تاج الاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي والعلاقات الحضارية الرصينة والرزينة مع العالم، عانقنا سماء عُمان المؤسسات والحداثة وهي ترفل في نعيم التعليم والصحة ورخاء العيش، بَصرنا عُمان الحديثة وقد نفضت عن ثوبها دنس الاقتتال القبلي والتشرذم المذهبي والتمزُّق العِرقي، بَصرنا أرض النحاس وهي تُعانق الثُريَّا في تلقين العالم دروساً رائدة في أدبيات السلام الحضاري وصون كرامة الحياة البشرية وإِجزالِ الحقوق وماهية التَّشبُّث بالهوية الوطنية.
ما أجل تلك العبارة وهي تشدوا بين أروقة البشر والحجر “..أبشري قابوسُ جاء..” وما أشبه اليوم بالبارحة؛ فحينما تشرَّفت عُمان بالمقدم الميمون في بداية السبعينات تهلَّلت البلادُ شوقاً لبناء الدولة، وحُباً لمن بيده خارطة طريق تنموية تُخرجها من عمق الزجاجة ومن الظلمات إلى النور، واليوم يُعيد التاريخُ تلك الصورة لكن هذه المرة يُقدِّم فيها الشعبُ نفسه لمن عشقهم حتى النُّخاع ودموعهم تنهمرُ فرحاً وسروراً بعد صيامٍ مريرٍ زُهاء ثمانية أشهرٍ عجافٍ، ويبقى السؤال ونحن في وسط بُركان الانقلابات والثورات والاعتصامات والمعارضات والقتل والتدمير كيف يُمكنُ لرجلٍ أن يُخلِّد حُبه بين جموع الناس بمُختلف مذاهبهم وأجناسهم وأطيافهم الفكرية والمذهبية؟، ثم كيف لشعبٍ يغيب عنه قائده طوال ثمانية أشهرٍ وحوله دولٌ تستشيط بلغة الرصاص نحو القتل إلا أنه كان يتحرَّقُ عشقاً وشوقاً لقائده بل يستسرقُ كل شاردةٍ وواردةٍ ليطمئن عليه؟، إنها عظمة الصامتين وسِرُّ العاملين بإخلاص دون بهرجةٍ أو فقاعاتٍ إعلاميةٍ منفوخة، هي هكذا حتمية العدل والإنصاف والتنمية والتضحية بالصحة والحياة لخدمة الوطن ومن على أرضه.
حق للعمانيين أن يُفجِّروا ينابيع الحُبِ والولاء والوفاء للقائد الوالد، فلتنطلق مسيرات البهجة دون توقف، وليُسمع العمانيون العالم أننا نملك نموذجاً ديمقراطياً نُفاخرُ به بين أرقام العمالقة، ومسلكاً سياسياً رشيداً تفرَّدُ به ونسير على نهجه، وحق لعاهل البلاد المُبجَّل أن يُفاخر بشعبه الوفيّ الذي خرج وسيخرج زُرافاتٍ ووحداناً للتعبير عن سروره بعودة قائده الميمونة، وليرحم الشامتون والمُطبِّلون على وتر التفرقة والانشقاق قلوبهم التي تتقطَّعُ كمداً وغيضاً بعودة الرجل الأشمِّ وهو بوافر الصحة والعافية دون أن يكسر الشَّيبُ ظهره أو يُوهِنُ المرض هامته فهم لا يرقبون في البلاد إلاًّ ولا ذِمَّة فليموتوا بغيضهم، حفظ الله السلطان قابوس وألبسه ثوب الصحة والعافية وجعله ملاذاً للبُسطاء والفُقراء والمُخلصين لهذا الوطن الشريف، ثق أيها الأب القائد أنك ستظل نموذجاً خالداً تتعلَّمُ من هيبة صمتك وعظيم عملك الأجيال المتعاقبة، وستظلُ عُمان تشدوا عاماً بعد عام (..أبشري قابوسُ جاء..).
بقلم/ سلطان بن خميس الخروصي