قبل فترة وجيزة احتفل مجلس الدولة بمرور عشرين عاما على إنشائه وهو يحمل بين راحتيه إكليلا من الإنجاز والابداع والتميّز، وقد شكّلت مرحلة النضج الشوريّ في البيت العماني أحد أهم الظواهر الحضارية نحو بناء جسور المدنيّة والتحضُّر والمُعاصرة؛ إذ جُبلت الشخصية العُمانية ومنذ بزوغ التاريخ الإنساني في هذه المنطقة على هذا المبدأ الراقي، فتُظهر لنا المُكتشفات الأثرية مواطن الاستيطان الجماعي لإنسان عمان القديم من شمالها إلى جنوبها، كما تتجّلى لنا ظواهر وبواطن الإنجاز الفني والمعماري والثقافي والحضاري العظيم الذي خلّده الفكر والذوق العربي العُماني في المنطقة بفضل الأُلفة والمُشاورة، أظف إلى أن أنوار الدِّين الحنيف صقلت هذه القيمة الربّانية في سجايا من يقطن هذا البلد الطاهر، لتستمر عجلة التطور الشوريّ إلى عهد رجل السلام حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس – حفظه الله ورعاه – الذي ما فتئ يستلهم من عبق التاريخ المجيد والشرع الإسلامي الحميد ركائز هذا المبدأ الجليل.
والمتتبّع لمنظومة مؤسسة الشورى في عُمان يجدها تمضي وفق منهجية تتابعية بنائية متراكمة، فمنذ العقد الثاني من النهضة المباركة انطلقت بواكير الشورى عبر إنشاء المجلس الاستشاري في العام 1981م وبعد عقد من الزمن توّجت هذه المسيرة بإنشاء مجلس الشورى وبالتحديد في 1991م لتظل هذه المنظومة تتغذى وتتطور بالفكر السامي لتصل إلى مرحلة النضج البرلماني، وفي السابع والعشرين من ديسمبر للعام سبعة وتسعون وتسعمائة وألف توّجت هذه المسيرة بإنشاء مجلس عمان بجناحيه مجلس الشورى ومجلس الدولة مع الأخذ بعين الاعتبار أن لكل واحد منهما شخصيته الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، والمراقب للظروف الشورية في السلطنة ومنذ انطلاق النهضة المظفّرة يجدها تتمتع بجملة من الخصائص يمكن إيجازها في الآتي:
1. التدرج الثقافي والممارسة للديمقراطية: *إذ كان الفكر السامي يرى أن بناء الثقافة الديمقراطية وآليات ممارستها هي بحاجة للتؤّدة والتأنِّي وخلق مَوَاطِن هذا السلوك وهذه الثقافة بالحكمة والموعظة الحسنة وسعة البال، فالمجتمع العماني على الرغم من تميّزه إنسانيا وحضاريا وثقافيا عن الشعوب المحيطة إلا أن الثقافة العربية بالولاء للعشيرة والقبيلة والتحزّبيّة لا تزال جاثمة على صدر الوطن، ونقل الفكر من جيل لآخر وفق الرؤية الديمقراطية هو بحاجة إلى مراحل انتقالية هادئة، ويتجلى هذا التفسير في خطاب جلالته بمجلس عام 2003 بقوله :” لقد أردنا ومنذ البداية أن تكون لعمان تجربتها الخاصة في ميدان العمل الديمقراطي ومشاركة المواطنين في صنع القرارات الوطنية وهي تجربة يتم بناءها لبنة لبنة على أسس ثابتة من واقع الحياة العمانية ومعطيات العصر الذي نعيشه، يشهد على ذلك ما سبق اتخاذه من خطوات متدرجة في هذا المضمار آخرها منح حق الانتخاب لجميع المواطنين رجالا ونساء ممن تتوافر فيهم الشروط القانونية”، فهذه التجربة الحضارية بحاجة للتروّي والتأنّي والأخذ بالأسباب دون الاندفاع أو التراخي في آنٍ واحد، وهنا نفهم منطلقات ودلالات كلمة سعادة الدكتور خالد بن سالم السعيدي الأمين العام لمجلس الدولة في الحفل المهيب على مرور عشرين عاما لإنشاء مجلس الدولة وهو يتحدث عن مسيرة الشورى والديمقراطية في البلاد فيقول: “نستذكر بكل الفخر والاعتزاز، وببالغ التقدير والامتنان، الرعاية السامية التي يوليها مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- لتطوير مسيرة الشورى في السلطنة؛ انطلاقا من تجذّر مفهومها وممارستها في الإرث الحضاري والفكري العُماني، واستلهاما لتعاليم الدين الإسلامي الحنيف، التي تدعو إلى تفعيل نهج الشورى في مختلف شؤون الحياة، خاصة في الأمور المتعلقة بالشأن العام؛ لذا تفرّدت الشورى العُمانية، بالجمع بين تراث الوطن وأساليب وأدوات العصر في الممارسة البرلمانية”، ليستطرد في ذلك بقوله: “إن الاهتمام السامي بمسيرة الشورى يبدو جليًّا منذ بواكير النهضة المباركة، بتعهد جلالته -حفظه الله ورعاه- بالعمل الجاد على تثبيت حكم ديمقراطي رشيد وعادل في البلاد، وما أعقب ذلك من خطوات عملية شكلت قاعدة صلبة، ومهدت الطريق للتطوير المنهجي المتدرج والمدروس لمسيرة الشورى في السلطنة، وصولا إلى ما تعيشه التجربة الآن من نضج ورسوخ، علاوة على تميزها بانتهاج نمط من الممارسة البرلمانية الموضوعية المنضبطة بقيم المجتمع، والمتفاعلة إيجابًا مع الهموم والقضايا الوطنية؛ بهدف الإسهام في تحقيق متطلبات كل مرحلة من مراحل العمل الوطني، ودعم مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والارتقاء بالإنسان العماني؛ وذلك بتكامل الجهود وتنسيقها مع مختلف مؤسسات الدولة”، وكل ذلك يؤكد التتابعية والتراكمية في خلق هذه الثقافة وممارستها كقيمة حقيقية.
2. القاعدة الحضارية والإرث التاريخي دون نقل تجارب الآخرين: فكثيرا ما نجد في خطابات عاهل البلاد الاعتزاز والفخر بالوجود العماني الخالد تاريخا وحضارة وثقافة وملاحة وعادات وتقاليد وخُلقا، ومن هذا المنطلق فإن هذه المسيرة بُنيت على أساس الاستلهام الحقيقي لهذا المجد العظيم، فخلق ثقافة شورية من أرضية وطنية لها خصوصياتها تبعث بالقناعة والتشبث بها والتعطش للتضلّع بكل تفاصيلها حتى تكون البلاد ضمن العمالقة الذين خلّدهم التاريخ، فلا يكاد خطابا لعاهل البلاد يخلو من استشراف عبق التاريخ والحضارة الإنسانية العمانية والدعوة للتجرّد من التقليد الأعمى، واستشهادا على ما تقدم نجد أن عاهل البلاد وفي خطابه بمجلس الشورى 21/12/1991 يقول: “مسترشدين بمبادئ الدين الحنيف وبالقيم والتقاليد العمانية الأصيلة التي كانت دوما وعلى مدى العصور والحقب المتوالية النبراس الذي يضيء لنا الدرب وينير السبيل ويحدد المعالم ويسدد الخُطى على طريق المجد والعزة والفخار”، وما هذه التفاعلات الكبرى في مجموعها إلا محصلة منطقية للتلاقي والتناغم الذي حدث بين شخصية القائد والطبيعة الحضارية معلنةً لعمان بذلك ميلاد عمان الحديثة، التي تقوم انطلاقتها الكبرى ودولتها الحاضرة على التكامل والجمع المتوازن بين مفهوم أصالة الأمة العمانية في الحفاظ على هويتها الحضارية وتقاليدها الأصيلة المستمدة من مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء، وبين مفهوم المعاصرة التي تعني الانفتاح على تجارب الآخرين واستيعاب مقومات الحضارة الحديثة والاستفادة من معطياتها في بناء الدولة العصرية.
3. إشراك المرأة في الحياة البرلمانية: إذ شكّلت المرأة ومنذ بداية المسيرة التنموية المباركة في بداية السبعينيات أحد الركائز الأساسية التي اهتمت بها الرؤية السياسية، فدخلت ضمن المكونات الرئيسية للدولة، كما خُلق لها كيان حقيقي في الحياة البرلمانية، واعتُبرت شريك استراتيجي فاعل في تحقيق التنمية، وفي ذلك نستشهد قول جلالته: “لتتمكن المرأة في كل موقع من أداء دورها الحيوي في المجتمع والذي عملنا ومنذ البداية على أداء إعدادها للقيام به، فأتحنا لها فرص التعليم والعمل والمشاركة في الخدمة الاجتماعية والاسهام بالرأي من خلال مجلس الشورى، وها نحن اليوم نقوم بتكريمها مرة أخرى وذلك بتعيينها في مجلس الدولة، لنرفع من مكانتها، ونعزّز من فرص مشاركتها في خدمة مجتمعها وتنميته وترقيته، إضافة إلى مهمتها الكبرى في بناء الأسرة، وغرس الانتماء والولاء في نفوس الأجيال الصاعدة”
4. تعزيز المبادئ الثابتة لسياسة الدولة داخليا وخارجيا: حيث نلحظ أن مسيرة التطور البرلماني العماني بُنيت على قواعد وثوابت لا تحيدُ عن جادة الصواب السلوكي والممارسة التي تنتهجها حتى يومنا هذا، فاحترام خصوصية الآخرين، والذّود عن الوطن، والعظّ بالنواجذ على الثوابت الإسلامية والتقاليد العربية المُثلى الأصيلة، وعدم التدخل في شؤون الآخرين، والابتعاد عن التغليب الذاتي والحزبي على حساب الوطن هي أمور جوهرية لا يمكن التقليل من شأنها، انطلاقا من قوله السامي: “هكذا يعلمنا ديننا الحنيف فقد امتدح الله عز وجل المؤمنين بقوله في محكم كتابه (وأمرهم شورى بينهم)، وهذا أيضا ما تقضي به قوانين العصر الذي نعيشه، وكما لا يمكن السماح باحتكار الرأي وفرضه على الآخرين لا يمكن في الوقت ذاته السماح بالتطرف والغلو من جانب أي فكر كان؛ لأن في كل ذلك إخلالا بالتوازن الواجب بين الأمور والذي على أساس منه تتخذ القرارات الحكيمة التي تراعي مصالح الجميع، وكما أن الفكر متى ما كان متعددا ومنفتحا لا يشوبه التعصب؛* كان أقدر على أن يكون الأرضية الصحيحة والسليمة لبناء الأجيال ورقي الأوطان وتقدم المجتمعات، فإن التشدد والتطرف والغلو على النقيض من ذلك والمجتمعات التي تتبنى فكرا يتصف بهذه الصفات إنما تحمل في داخلها معاول هدمها ولو بعد حين، ونحن إذ نؤكد رفض مجتمعنا العماني لأية دعاوى لا تتفق وطبيعته المتسامحة المعتدلة، ننبه كل المختصين إلى إن التوعية مهمة للغاية من أجل فهم الأمور على حقيقتها، وعدم ترك المجال لأي تكهنات لا تقوم على أسس سليمة، فسياسة السلطنة قائمة على تحقيق التوازن في الحياة؛* اتباعا لقوله تعالي “وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض”، لقد فطرنا في هذا البلد ولله المنة والحمد على السماحة وحسن المعاملة ونبذ الأحقاد ودرء الفتن والتمسك بالأعراف والقيم القائمة على الإخاء والتعاون والمحبة بين الجميع .
وتشكل التجربة الشورية في سلطنة عمان نموذجا ديمقراطيا له خصوصيته التي تنطلق من السياسة الحكيمة والرؤية السديدة في بناء هذه التجربة للوصول الى النضج الآمن، حيث كانت جرعات الصلاحيات والأدوات بنائية وفق متغيرات المرحلة، حتى كان العام 2011 مرحلة مفصلية أظهرت لمؤسسات الدولة والمواطنين النضج الحقيقي لهذه المسيرة عبر إعطاء مجلس عمان بجناحيه “الشورى والدولة” صلاحيات تشريعية ورقابية ومتابعة الجهات التنفيذية علاوة على تطور الأدوات البرلمانية العصرية.
بقلم/ سلطان بن خميس الخروصي