نواصل قراءاتنا لمضامين الخطابات السامية لجلالة السلطان المعظم بمجلس عمان، ولا زلنا نستقرأ ما *تضمنته من رسائل ومبادئ وثوابت ونحن في بِكارة تأسيس عمان العصرية الحديثة، وفي هذا المقال سنتناول خطاب جلالته بمناسبة بدء الفترة الثالثة للمجلس الاستشاري للدولة 4-1-1986م، وقد جاء فيه: ” إننا نتابع بمزيد من الاهتمام كل هذا النشاط والإنجازات المستمدة جذورها من تقاليدنا العمانية الأصيلة في العمل بكل الاخلاص والتعاون؛ لخدمة الصالح العام للوطن والمواطن، وأننا لنبارك الحوار الإيجابي الذي يجري ضمن هذا الإطار بين أعضاء المجلس والوزراء والمسؤولين عن قطاعات التنمية؛ باعتباره ظاهرة صحية تعكس نضج التجربة كما تعكس حرص المجلس على مشاركة الحكومة اهتمامها بمعالجة قضايانا الأساسية”، نجد أن الخطاب يستهلُّ طرحه بأسلوب يملئه التحفيز والتشجيع ودفع النفس نحو الثقة وغرس القناعات الإنسانية القيّمة القائمة على الشعور بالذات والمسؤولية، أظف إلى ذلك أنه يعيدنا للثوابت الأصيلة التي تطرق لها سلفا في الخطابات السابقة وعلى رأسها العظّ بالنَّواجذ على الثوابت العمانية والموروث الناضح بالجمال والإنجاز والتفاني، ويُعزّز من قيمة الحوار البنَّاء الهادف والقائم على الحجّة والدليل والاحترام والتشاركية بين المسؤولين سواء من الأعضاء أو الوزراء أو من له صلة بالتنمية والازدهار، وفي نهاية هذه الفقرة نجد أن الخطاب يُعزِّز من قيمة المُشاركة في معالجة القضايا الوطنية والمشكلات التي تُجابه الحكومة في سبيل النهوض بالبلاد نحو التطور والبناء، وهنا دليلٌ على وزن التكامل المؤسساتي والمجتمع والأفراد في سبيل صناعة القرار وجعله ذو قيمة اعتبارية وليست شكلية فحسب، فتبرز القناعة السَّامية والفكر الفسيح نحو تعزيز قيمة الديمقراطية وعدم التسلطية في صناعة القرارات والابتعاد عن اختزال الوطن من محيطه الواسع إلى الزاوية الضيقة.
“.. وقد جاء احتفالنا بعيدنا الوطني الخامس عشر تعبيرا عن مشاعر وطنية جيّاشة فاضت بها قلوب شعبنا فرحة واعتزازا بثمرة عملة ونهضته الشاملة، والتي أعادت لعمان المكانة اللائقة بها وبتراثها الحضاري العظيم، ولقد كانت مشاركة الدول الشقيقة والصديقة في احتفالاتنا ممثلة بقادتها وكبار الشخصيات فيها انعكاسا صادقا للروابط القائمة بين شعبنا وشعوب هذه الدول، ورمزا لروح الصداقة والتعاون التي تعزز علاقتنا بالعالم الخارجي على كافة المستويات” هنا تشعر بقيمة التبادل الإنساني الرفيع بين الحاكم وشعبه، وهي قيمة لا يمكن أن يشعر بها إلا من وجد نفسه في قافلة الاحترام والتقدير واعتباره مكونا حقيقيا لبناء دولة المؤسسات، ونلحظ أن الخطاب هنا مفعم بالمشاعر الجيّاشة والفخر والاعتزاز والثقة وإظهار الوجه المشرق للمجد العماني الذي كان ولا زال خالدا في جبين التاريخ؛ والدليل على ذلك الإجلال والتقدير هو مشاركة شعوب الأرض احتفال عمان العظيمة بعيدها الوطني وهي في الأمس القريب كانت تعيش في كومة الانعزال والاقتسام، وهنا تبرز القوة العمانية سياسيا وحضاريا واقتصاديا في الخريطة العالمية، والتي تُرجمت عبر مشاركة العديد من الدول الرائدة بإنجازات هذا القُطرِ من الجزيرة العربية، وذلك إن دلَّ على شيء فهو يشي بالعمل الدؤوب والمُرَاقب من دول العالم وشعورها بالمثابرة العمانية لتحقيق التنمية البشرية والعمرانية.
“..كما سعدت بلادنا بانعقاد القمة الخليجية السادسة بين ربوعها؛ مما أتاح لنا ولشعبنا فرصة طيبة للتعبير عن تقديرنا لإخواننا قادة مجلس التعاون، واعتزازنا بأواصر الأخوة التي تجمع بين شعوبنا وتوحد جهودها في إطار مسيرة التعاون وتجربته الرائدة، كما أتيح لهذه القمة أن تحقق من النتائج ما نعتبره كسبا كبيرا وعلامة بارزة ليس على صعيد توطيد التعاون والتقارب فحسب ولكن أيضا على صعيد العمل الجماعي من أجل تأمين الاستقرار لشعوبنا وتعزيز موقفنا الموحد في مواجهة التحديات والأخطار، وأنه لا يسعنا اليوم في صدد سياستنا الخارجية إلا أن نؤكد مجددا حرصنا على القيام بواجبنا كاملا في نطاق أسرتنا الخليجية وأمتنا العربية الإسلامية والمجتمع الدولي لخدمة أهداف السلام وللاستقرار والتعاون..”
يبرز الخطاب الوزن الحقيقي الذي يحمله جلالة السلطان لمجلس التعاون الخليجي، فهو اليوم الشاهد الوحيد على ولادة هذا المجلس، وهو كذلك الأب الروحي الذي يمكنه وضع الملامح الحقيقة لما يجب أن يكون عليه، فمنذ تأسيس المجلس كان الحضور المهيب لجلالة السلطان قويا وأفكاره وآرائه وتوجهاته محل تقدير وإجلال واحترام، فالخطاب وبعد ست سنوات من تأسيس المجلس يؤكد على الدوافع الرئيسية من ذلك والأهداف الاستراتيجية والرؤية الاقتصادية والسياسية الحقيقية التي يجب أن ينتهجها، فهو يدعوا إلى كلمة سواء وتعزيز قيمة المواطن الخليجي والنَّأي به عن براثن الفكر وسقامة التفكير، كما يؤمن أن هذا النسيج لابد أن يكون الخط الأول للدفاع عن حياض المنطقة وعدم فتح الباب لأي سماجات سياسية أو مراهنات خاسرة، فانحلال العقد وعدم الثقة والتشكيك والتخوين والاستصغار هي مسارات مؤلمة لواقع لا يعود على المنطقة بخير، كما ويؤكد على اللُحمة العربية والإسلامية ويضع عُمان ضمن الهرم المتكامل للدفاع عن الحقوق والمكتسبات التي تحفظ منظومة السلام والأمن العالمي.
“.. ندعو إلى توجيه الاهتمام لتنمية مواردنا الاقتصادية بما يجفف الاعتماد على النفط ويساهم في مواجهة تقلبات السوق النفطية، وسلبيات الركود الاقتصادي العالمي؛ لتتوفر لاقتصادنا الوطني وباستمرار القدرة على إنجاز مشاريع جديدة تحمل إلى شعبنا المزيد من الخير والرخاء..”
هذه الفقرة من الخطاب السامي هي بمثابة الشمعة التي تضيء للمسؤول أهمية التفكير الاستراتيجي بعيد المدى، فنجد أن خطابا بهذا الوزن وبهذه الرؤية وفي هذه الظرفية الزمانية يقرأ واقعنا الحالي إن الاعتماد على النفط وجعل رقبة الاقتصاد على تجاذباته لهو خطاب دقيق ومدروس بعناية، فالخطاب الثمانيني يقول للسيد المسؤول أن الاعتماد على النفط كمورد وحيد واستراتيجي دون التفكير في البدائل هو جد خطير ويفتح الباب على احتمالات مؤلمة على الاقتصاد والمواطنين والتنمية، ولذلك نجد أن كثيرا من الدول الرائدة بدأت تفكر في اقتصاد المعرفة، وفي تحقيق منابع اقتصادية متجددة وغير ناضبة سواء من السياحة أو التعليم أو الاستثمار في البنية التحتية أو الرياضة أو الصناعة أو الزراعة وغيرها من مشارب الاقتصاد، وحتى نكون واقعيين يمكننا أن نقرأ واقع الاعتماد الكلي على النفط خلال العشر سنوات الأخيرة وتأثيرات ذلك اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبحثيا وعلى مجالات التنمية المختلفة، إذن لابد من إعادة النظر في واقع الاقتصاد النفطي، والأخذ بتفاصيل مثل هذه الخطابات التي هي بمثابة مرجعية حقيقة لتحقيق التنمية المستدامة.
بقلم/ سلطان بن خميس الخروصي