طالما شكل الولاء والانتماء القومي معيارا للوجود أو الفناء في سبيل الذّود عن حياض الكرامة والأَنفة والاعتزاز بالحياة الهانئة، فمن يقرأ التأريخ يستمطر منه جمعا غفيرا من صولات وجولات الأمم منذ بدء الخليقة، إلا أنه وفي بعض الأحيان تشكل مثل هذه الولاءات ويلات للبشرية وقودها الفقراء والعوَزة ومن تقطّعت بهم سُبل الحياة، وقد شكل الوطن العربي أحد فصول هذه النماذج الثورية منها والإصلاحية والتي جعلت من القومية والتشبث بها مرجعية مقدّسة لتجييش الطوفان البشري داخل حدود والوطن وخارجه؛ فتشكلت زُرافة ووحدانا من الأحزاب السياسية التي وضعت الانتماء القومي في مصاف الأولويات للدفاع عن المصلحة العربية من عبث المراهقين والمستعمرين ومرتزقة المواقف والذمم، ولا ضير في الاعتزاز بالانتماء العربي القائم على قاعدة “لا ضرر ولا ضرار” فنبيّ الأمة فاخر بعروبته دون أن ينتقص من شأن بني أمته فقد فاخر بنسبه من بني هاشم وقال في معركة سلوت “اليوم انتصر العربُ على العجم”– مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحديث يحمل مضامين فقهية واجتماعية وسياسية متباينة-، وقد شكلت قضية التحرر العربي من الاستعمار الحديث ونفض غبار ظلم معاهدة سايكس بيكو والتي قسمت الكعكة العربية إلى ثلاثة مُلاَّك وهم الإنجليز والفرنسيين والروس، ومن يقرأ التأريخ تغور قدميه في الدماء الزكيّة ضد الامبراطوريات وزبانيتها والتي انتهت بخلق ربيبتهم – الكيان الصهيوني – في قلب الوطن العربي ضمن وعد بلفور المشؤوم.
وخلال أكثر من ستة عقود ونيف شكلت القضية الفلسطينية مهد ولحد التحرر العربي والحلم الخالد في سبيل الوحدة العربية، فمرت هذه القضية بموجات ارتدادية متتالية وبقيت بين فرٍّ وكرٍّ لتشي بواقع هلامي للمشروع العروبي السياسي، ومن المواقف المشهودة عبر التاريخ والتي توحي للمراقب عمق صناعة القرار السياسي والانتماء القومي الأصيل نجد أن الموقف العُماني ومع كثير من المتغيرات والمساومات وتقلّب الأمزجة والأنظمة وازدواجية الولاءات والانتماءات ظل رزينا ومتينا في تقييمه للحق العربي متضلّعا بقاعدة الثوابت والأولويات، لتظل مواقفها خالدة يشدوا برُبابتها التأريخ؛ فيَسمع أثيرها جموع الأُمم والشعوب، ليرشفوا من مَعِينِ جنائِنِها أُرجوزة المدنِّيَة والتحضُّر وصناعة السياسة واحترام الإنسانية وحق تقرير المصير، فعزلت نفسها عن صخب الدعوات القومجية التي تُنازل الثُريَّا في استثارة شعوبها نحو أهداف وطنية هُلامية تمضغها الألسنة لتكون بعد حين مناص قُربانا لتحقيق مقاصد حزبية أو قومجية زائفة أو قبلية أو مذهبية سمجة كما هو واقع كثير من دول العالم العربي حتى إذا ما انقشعت غيوم الكذب وشراء الذمم تراشق أبناء الوطن الواحد بنباتات سامة قاتلة تُربتها الخبيثة ترتوي بمعين التحزّب والانشقاق، متناسين قضيتهم القومية المحورية.
*إن المتتبع للموقف القومي العربي العُماني في عهد السُلطان قابوس يلحظُ أنه واضح المسار فلا ضبابية في الثوابت ولا مساومة على الحقوق وتحديد المصير؛ ليضرب بذلك نموذجا رائدا في بناء مفهوم ودلالات القرار السياسي والانتماء الخالد للقضية المشروعة؛ فكما أنه استطاع إخراج بلاده من عمق الزجاجة والعُزلة إلى محافل الوجود الدولي لتصبح رقماً صعباً ضمن المنظومة العالمية قوامُها التبصُّرِ والحكمة والثوابت الإنسانية النبيلة نحو عيش رغيد للجميع؛ يرى بأنه من الضرورة أن يشعر العالم الحديث والدول العظمى بأحقية العرب في مكتسباتهم وحقوقهم وعيشهم وتاريخهم، كما أن الثوابت السياسية لهذا البلد لا تؤمن بأن يرجع العالم العربي إلى الصورة البدائية حينما كانت عُمان قبل نهضة السبعين كما تذكر كتب التأريخ تعيش عُزلة سياسية وحضارية واقتصادية ديدنُها الأول والأخير الذوّد عن (فُتات) دولة مُقسَّمة بين الداخل والخارج؛ ليعصف بها الاحتقان القبلي والأيديولوجي فيهوي بالبلاد والعباد نحو مُستنقعات سحيقة مظلمة ومفترقات طرق وجِلة من استعار الحرب الأهلية النتنه؛ فخارت مكانتها الإقليمية والدولية وأضحت من المُستضعفين الذي سال عليها لُعاب أهل النفوذ من سماسرة وشراذمة الموت؛ فدُمِّرت البلاد ونُكِّل بالعباد فلم يبقى بها شجرٌ ولا حجرٌ ولا مدرٌ إلا ويلهجُ بصوت الرصاص والاغتراب في أرض الوطن، وقد جرَّ ذلك الضمور السياسي زُهداً اقتصادياً أمام ما تملكه البلاد من خير وفير؛ فغابت العدالة الاجتماعية وشهدت البلاد عُقما ثقافيا لا مثيل له عبر صفحاتها الظافرة، فعاش الناس فقراً مُدقعاً وإحباطاً مُفزعاً ألقى بضلاله على الداخل والخارج.
كما أن ثوابت الموقف العربي العماني تجاه أمته ينطلق من تجربة مريرة حينما كانت البلاد تَألَمُ من جِراحات الخِنجرِ المسموم الذي أشهرهُ بعض رجالات الشيوعية في جنوب عُمان والتي شكَّلت مُنعطفاً يستنزفُ جُرح الوطن المُتهالك، فمنذ منتصف الستينيات وحتى مطلع السبعينيات وبالتحديد في عام 1975م كانت حركة التمرد تتلَّقى دعماً سخياً من من بعض الدول العربية، وفي خضم هذه الزوبعة انبرى السلطان قابوس على منصَّة القيادة وعلى كاهله إِرثٌ مُثقلٌ بالجِراح، ووطنٌ مُتهالكٌ ومُترهلٌ بالدماء الفاسدة من الداخل والخارج، وسهامٌ مُتواترة بين الحين والآخر من الشيوعية في الجنوب، وبذور الإمامة النائمة في الداخل، وتراشق دولي كبير بين الرأسمالية والشيوعية، علاوة على الخطر الإيراني الذي كان ولا زال تتوجس منه رِيبة ورَهبة دول مجلس التعاون الخليجي، فكان خطابه السامي يشي بما تشعر به نفسه ونفس العمانيين من الإحباط والبؤس تجاه الموقف العربي وهو الذي كان يطمح منهم احتواء الموقف فكان خطابه السامي: “إنني كنت أنتظر بمجرد أن أصبحت عمان عضوا في الجامعة العربية أن يبادر الأخوة إلى وقف هذا النزيف!”.
وأمام كل ذلك بُني الموقف العماني على قاعدة أولوية اللحمة القومية ووحدة المصير منذ تولي عاهل البلاد الحكم وحتى الساعة والموقف العماني يدعوا نحو لم الشمل العربي وتوحيد المواقف السياسية وبناء الأولويات التنموية للأمة العربية، وتضميد جراحات العراق وسورية ولبنان واليمن والتركيز على القضية الأساسية وهي قلب الوطن العربي والتركيز على البحث العلمي والابتكار والإبداع لمواجهة التغوّل الصهيوني والاستعمار الحديث، وفي ذلك نقتبس بعضا من أقوال عاهل البلاد – أعزّه الله- في التمسك بالحياة الكريمة والحق العربي والدعوة إلى عدم الارتجال في اتخاذ المواقف والمتاجرة بحق تقرير المصير، وضرورة العظ بالنواجذ في سبيل الوحدة القومية ضد الاستعمار، فنجد خطابه في فترة الانعقاد السنوي لمجلس عمان 2011 “لقد فُطرنا على نبذ الأحقاد ودرء الفتن والتمسك بالأعراف والقيم القائمة على الإخاء والتعاون والمحبة بين الجميع، فهي سياج يحميهم من التردي في مهاوي الأفكار الدخيلة التي تدعو إلى العنف والتشدد والكراهية والتعصب والاستبداد بالرأي وعدم قبول الأخر التي تؤدي إلى تمزيق المجتمع واستنزاف قواه الحيوية وإيراده موارد الهلاك والدمار”، وحول القضية العربية الفلسطينية وفي خطابه بالعيد الوطني الحادي والعشرون يتفضل جلالته بالقول: “وتؤمن سلطنة عمان بحق الشعب العربي الفلسطيني الشقيق بالحياة الكريمة والذي عانى من الاحتلال خلال نصف قرن مضى، والتوصل إلى *سلام دائم وعادل يعيد له حقوقه المشروعة ويضمن له العيش الكريم على أرض وطنه، وتكريس طاقاته لإعادة إنشائه وتعميره وتنميته وتطويره.”
بقلم/ سلطان بن خميس الخروصي