شكل التاريخ رافدا مهما في انطلاقة العهد الزاخر لعمان الحضارة والمجد، وقاعدة متينة ارتكزت عليها خطابات كثيرا ممن حكموا أرض مجان عبر تعاقب حقبها المجيدة، ومن يغور في خطابات قياداتها السياسية والدينية يجد أنها مُشبَّعة بإرث الحضارة العمانية الزاخرة، فمن ساسوا مشرق الأرض ومغربها وخاضوا البحار والفيافي وقدموا رغد العيش ونعيم الحياة ليلجوا في رحم أفريقيا التي كان يسميها الأوربيون بقارة الوحوش يحق لهم أن يُلزموا المؤسسات الدولية والإنسانية في تسجيل هذا الرصيد الحضاري في جميع المحافل، ولا يخفى على ذي بصيرة أن الاستيطان الحضاري لإنسان عمان القديم مثَّل خارطة طريق بيّنة لمن عَمرو جزيرة العرب إلى جانب القبائل والشعوب التي استوطنت مجاهيل هذا القُطر من الكرة الأرضية، كما أن كُتب السِّير والتراجم وألسنة المؤرخين ومدادهم البالي يحكي قصة الخلود العظيمة في زمنٍ كانت البشرية تقتات على فتات العظماء.
*من يُمعن النظر في سماء وأرض أفريقيا يشتمُّ عبق العدالة والإنصاف والإنسانية وبناء مؤسسات الدولة وأُبَّهة القصور والعِمارة من القناطير والمشربيّات والقمَّاريات وكلها شواهد جليلة على العمق العماني في بناء الإنسان والمدنيّة، وإن يمّمت وجهك شطر أمريكا فعباب السفينة “سلطانة” وربّانها أحمد بن النعمان الكعبي تروي لك ملحمة مجد عظيم وسلطان نافذ السياسة والحكمة، وإن رجعت لعهد النبي وصحابته الكرام ستجد أن عظيم هذا الوجود ذكره النبي الأعظم لعبد وجيفر ابني الجلندى باسم “ملكُكما” وفي ذلك دلالات سياسية وحضارية واعتبارية كبيرة، فأينما يمّمت وجهك شطر هذه الأمة* وجدت لها أثر جليل وعطاء جزيل للبشرية والدين والحياة، فهناك من يتحدث التاريخ عنهم ويهرول لسرد وقائع مجدهم وأثرهم، وفي الجانب الآخر تجد من يتسوّل التاريخ ويضخ المال والإعلام لشراء أمجاد مُحرّفة وبين الجانبين تفاصيل وشياطين الإنس والجن!.
لذلك نستطيع أن نستوعب دلالات الخطابات السامية لعاهل البلاد – أعزّه الله –وهو يذكر التاريخ وأمجاد عمان والفخر والاعتزاز بالمسيرة الظافرة للإنسان العماني منذ القدم وحتى الساعة؛ فهي مبنية على قواعد متينة قوامها التجارب والنضال وحب الإنسانية والعدالة والوقوف في وجه المعتدي، ومن ذلك خطابه في بالعيد الوطني الحادي عشر 1981م: “ولقد أثبت التاريخ مرارا وتكرارا أن هذا هو المنطق الوحيد الذي يحترمه من تقودهم أطماعهم إلى تهديد السلام العالمي بالخطر ، وإذا جاء اليوم – لا سمح الله – الذي يطلب منا أن نهب للدفاع عن بلدنا ومبادئنا التي بها نعيش فليعلم أولئك الذين قد يفكروا أو يحاولوا الاعتداء علينا أننا سنواجههم بكل عزم وبسالة، وكأمة واحدة مدججة بالعزيمة والسلاح”، فدلالات هذا الخطاب توحي للمتلقي الوزن القيمي للامتداد التاريخي قيادة وقيما وقناعات في مد جسور التلاحم الإنساني، والوقوف مع المتغيرات والحقب بما يخدم مصالح الشعب والبلاد، كما لم ينسى إلى جانب رفع غصن الزيتون أن يرفع بالأخرى يدا السلاح لمن يود العبث بهدوء الأموات العظماء، أو يقدح في ملحمة البناء القويم للإنسان العربي العماني الذي صال وجال في مجاهيل العالم البرية والبحرية بدء من حضارات الجزيرة العربية وبلاد الشام وبلاد الرافدين وصولا إلى مجد الهند والسند وجيوب أفريقيا والصين يطوون خلف أقدامهم جبروت المحيط الهندي وبحر العرب والمحيط الهادي، هذا العربي الأصيل الذي استنجد بهم أهل مكة حينما أوغل الحجاج بن يوسف في طغيانه وبدا بهدم جدران الكعبة المشرفة رميا بالمنجنيقات، هذا العربي الهُمام الذي استنجد به أهل البصرة من طغيان الفرس وحضارة دلمون وشذر من أمجاد اليمن العظيم.
من يمعن النظر في الخطابات السامية سواء بمجلس عمان او في البرلمان المفتوح (الجولات السامية) أو في المناسبات الوطنية يلمس طبيعة الفلسفة الوطنية والقومية وعمق الإنتماء بين الروح والتاريخ والأرض، كما تُشعرك تلك الخطابات بالوزن الحقيقي لسياسة التعامل مع الآخرين والقائمة على مرتكزات وثوابت قويمة؛ فلا غرابة أن يعلن جلالة السلطان – أيده الله – أمام العالم السياسة التي تنتهجها عُمان مع الآخرين انطلاقا من فلسفتها التاريخية والحضارية؛ فنجد جلالته يعلن للعالم وفي العيد الوطني الرابع المجيد 1974 عن هذه السياسة في قوله: “أما عن سياستنا الخارجية فقد أعلناها كثيرا في مناسبات مختلفة وفي مؤتمرات دولية وسنظل نعلنها إننا جزء من الأمة العربية وسياستنا تنبع من منطلق مصلحتنا العليا وتاريخنا الناصع، وقد وضحت الصورة أمامنا تماما وعرفنا من خلال عمل متواصل في سنوات أربع، موقع قدمنا وقد وضعناها ووجهنا وجهة نابعة من صميم إرادتنا موقفنا من أي دولة يتحدد على ضوء موقفها من قضيانا الوطنية واحترام سيادتنا التي لا تسمح بأي تدخل في شؤوننا ورفض أي محاولة للتأثير على سياستنا أو توجيهها مهما كان مصدرها، إننا نؤدي دورنا في المجتمع الدولي بإيجابية وفعالية، ونشارك في حل القضايا العادلة ونحن كأمة إسلامية نضع نصب أعيننا القيم النبيلة والأفكار السامية والتمسك بمبادئ ديننا الحنيف وتاريخنا العريق؛ انطلاقا من التفهم بدورنا حيال منطقتنا بوجه خاص، والمنطقة العربية بوجه عام”
بقلم/ سلطان بن خميس الخروصي