تروي كُتب التأريخ أن شجرة الدُرِّ وأمام كُل إنجازاتها التي قدَّمتها للخِلافة الإسلامية إبان حُكم المماليك لم يشفع لها ذلك من أن يُهشَّم رأسها بالقباقيب، كما تتحدث كُتب السِّير والتراجم أن عدداً غفيراً من خُلفاء هذه الأُمَّة وبعد عهد النبي الكريم توالت بهم وعليهم أزمات وصراعات أربكت الوضع السياسي ومزَّقت النسيج الاجتماعي الذي كانت تشُدُّهُ الأُلفة واللُحمة الأخويَّة المُتبادلة، ليروي لنا التأريخ بعد حينٍ من الدهرِ نهايات مُفجعة لأولئك الخُلفاء والحُكّام اتَّسمت في غالبيتها بالوحشية المُفرِطة دون أن تشفع لهم شواهد إنجازاتهم الحضارية والفكرية والاقتصادية والسياسية، فمنهم من فُقأت أو سُملت عينيه، ومنهم من قُطِّعت أوصاله، وبعضُهم من سُلخ جلده، والآخر من دُقَّ عُنقه وعُلِّق على أسِنَّة مداخل القصور، وبعضهم أصبح مضرِباً للدُعاء عليه بالخزيِّ والثُبور دُبر كل صلاة، وفي العصر الحديث نجد أن كثيراً من الشخصيات التي ذاع صيتُها وكانت مثار صولاتٍ وجولاتٍ في المحافل السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية أو الاجتماعية والتي ترآءت لنفسها كالآلهة أو النبي المُرسل المُوحى إليه من رب السماوات والأرض ليُنذِر الناس بدينٍ يُفصِّلُه كما يشاء ليُلبسه قومه أنَّا شاء!، وما هي إلا شذرٌ من السنين حتى تقاطرت تلك الهامات صَرعاً أمام غضب شُعوبها حيثُ غليان فُقرائها وجشع أغنيائها لتنقل لنا شاشة التلفاز مشاهد مُفجعة عن رؤساء وقيادات استُبيحت دماؤهم واستُذِلَّت كرامتهم بعنجهية فاحشة ولسان حالها يستصرخُهم (ارحموا عزيز قومٍ ذلّ)!.
وأمام بدايات هذا العقد من الزمن تواترت أنباء تتحدث بقدوم ربيعٍ عربي تأملت به شعوب المنطقة خيراً بأن يُكسي البلاد زهواً ورخاءً، فجاء المولود المُنتظر بكل أزماته ليُلقي بِعِظَمِ ثِقله المُتخم والمترهِّل بمفاسد المصالح والحسابات الإقليمية والدولية، ليُفرِّخُ واقعه بين أوصار الوطن العربي تشرذمٌ سياسي وانحسارٌ اقتصادي ويدقُّ آخر مسمار في نعش اللُحمة المُجتمعية فيُّذكي فيهم حميَّة الجاهلية الأولى؛ لتُعدم العدالة الاجتماعية، وتُغيَّب الأجندة الوطنية من الساحة السياسية، وتتغلغل المحسوبيات والمصالح الشخصية والمذهبية والحِزبية والقَبلية؛ فيتوشَّح المشهد برُمتِه نحو غرس النَبتِ الخبيث بما يُرهب الناس ويضجُّ مضاجعهم بعصابات تتسمَّى بالخِلافة والدِين الحنيف وهو بريء منها كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب، فأضحت البلاد مرتعاً للضلال يعيث بها المفسدون قتلاً واستِرقاقاً للعباد ونهبا للحقوق لتُجرَّ الأوطان نحو مُستنقعات وأنفاق مُكفهِرة الظُلمات بعضها فوق بعض إذ أخرجت يدك لم تكد تراها، ليُرجع لنا التاريخ بالذاكرة قليلاً نحو حيثيات خديعة الثورات العربية التي اندلعت قبل عهودٍ خلت فخارت وأصبحت هباءً منثورا، وليست ثورة الشريف حسن 1916 ببعيدٍ عنا حينما أراد العرب الخلاص من (ظُلم) الخلافة العُثمانية ليجدوا أنهم قد فتحوا على أنفسهم باباً واسعاً للسقوط في وَحلِ الاستعمار الحديث ولسانُ حالهم “على نفسها جنت براقش”، ومن العلامات التي يندهشُ لها العقل ما شهدته المنطقة العربية في ظل هذا التصحُّر الحضاري بالتلذُّذِ المُفرِط نحو التنكيل بوحشية مُقزِّزة للقيادات السياسية العُليا بالدولة وكأن المشهد يُعيد نفسه نحو وحشية الانتقام الذي عاشه العرب بعد عهد النبي الكريم.
وأمام كُلِّ هذا الزَّخم والضجيج المُزعج والدماء المُتناثرة هنا وهناك، وأمام كُلِّ الاتهامات المُشينة في حق الوطن والمواطن لانتماءات سقيمة باسم المذهب أو الدين أو العِرق أو الحِزب أو القبيلة، نجد أن العمانيين يمثِّلون نموذجاً رائداً في إعطاء العالم صورة حقيقة لمظاهر التحضُّر والمدنيَّة؛ فهم بشهادة أقلام خليجية وعربية وعالمية يملكون استنارة سياسية متوقِّدة، وفكراً سليماً غير ملوَّث، وخُلقاً نبيلاً استلهموه من السيرة العطِرة لنبي هذه الأمة لا من بعض تُجَّارِ الدين والسياسة وعُبَّاد المال، إن ما تشهده أرض الغُبيراء جديرٌ بأن يقف أمامه المواطن العربي وقفة تأمل تدفعهُ لأن يستمطِر عقله المشوَّش مجموعة من الأسئلة: فكيف لرجُلٍ يحكم بلداً طوال سبعة وأربعون عاماً دون أن يتربَّص عليه القوم أو لإثارة نعراتٍ تُقلق أمن البلد فيجبروه على التنازل عن السُلطة بل النقيض من ذلك هم يزدادون حُباً وعشقاً وولاءً له؟!، ثم كيف لشعبٍ يملك تنوعاً ديموغرافياً وجغرافياً وفكرياً ومذهبياً أن ينسجم مع بعضه البعض دون حِراكٍ مشهود لطائفة عن أخرى أمام ضجيج فوضى الربيع العربي؟ أسئلة مشروعة ودقيقة دفعت المُعجبين بهذا البلد للاسترسال في الحديث عن ملحمة الفِكر الوضَّاء لصاحب الجلالة حفظه الله ورعاه، وبالمقابل دفعت أيضاً ببعض المراهقين والمُتربِّصين والحاقدين للسعي نحو النَّيل من مكانة الدولة ورئيسها وشعبها من خلال اللعب بلُعبة قذِرة قوامُها المذهبية والنعرات الطائفية والقبلية والتي من المؤسف أن نجد مجموعة من الشباب العماني الذين كُنا نُشير إليهم بالبنان لكنهم كانوا يُغرِّدون خارج السرب بما يتنافى ومصلحة الوطن بمُسميات هُلامية وهِنة كبيت العنكبوت.
إن ما يشهده هذا البلد من رخاءٍ ومحبةٍ ووئامٍ ما هو إلا نموذج حضاري نُفاخر به؛ إذ بُنيَت هذه الانجازات والشواهد بسواعد أبناء عُمان المُخلصين الذين يُذعنون الولاء لله ثم للوطن ثم للسلطان دون أن تأخُذهم رياح الغدرِ والتخوين والاستحقار، فهذه الأرض الطيبة لا تملك تُربة خبيثة لتُزرَع فيها بذور الشِقاقِ والنفاقِ ومساوئ الأخلاقِ، ولا تملك قلوباً مُوغِلةٌ بالحقدِ والدسائسِ تتربَّص للنَّيل من ولي عهدها أو أبناء جِلدتها لاختلافات هزيلة واهِنة، كما أنها لا تأوي أشباه الرجال الذين يُحكِّمُون مصالح الخارج عن مصلحة الوطن، والأهم من ذلك أن لا مكان فيها لتُجَّارِ الدِّينِ الذين يساومون في مزاد الكُفر بفتاوى ما أنزل الله بها من سُلطان تُحلُّ دم المؤمن على أخيه وهوه جُرمٌ مُحرَّم ٌبنص القرآن العظيم وحديث النبي الكريم، فكم تتقاطر الدموع حُباً وشكراً لله حينما تجد أن عُمان الطاهرة من مُسندم الزاهية إلى ظُفار الشامخة تلهثُ بالدُّعاءِ على الدوام بأن يحفظ الله القائد حضرة صاحب الجلالة – أعزَّهُ الله – وأن يُديم عليه نعمة الشفاءِ والصحةِ، وأن بقيه شامخا في أرضِ عُمان الطيَّبة لتتوشَّح سماؤها بنور حكمته التي استلهمها من كتاب الله وسُنة نبيه ومَن سَلف مِن آبائه الكِرام الذين حكموا البلاد فعمروها خيرُ عِمارة.
ومن يُسبر أغوار خطابات جلالة السلطان حول الاعتزاز بالتاريخ العظيم لهذه الأمة والتأكيد على معادلة التوازن السياسي في المنطقة وحُسن الجوار والعظِّ بالنواجذ على ثوابت المواطنة يرقى فكره بأن هناك خطٌ واضح المعالم نحو قُدسية النفس البشرية واحترام الشعوب وإرادتها، ففي خطابه الميمون الموجه لكبار رجال الدولة والمؤرخ 15-5-1978: “إن السياسية التي اخترناها وآمنا بها هي دائما وأبدآ التقريب والتفهم بين الحاكم والمحكوم وبين الرئيس والمرؤوس، وذلك ترسيخا للوحدة الوطنية وإشاعة لروح التعاون بين الجميع، أكان ذلك بين من يشغلون المناصب العالية في الحكومة وبين معاونيهم والعاملين معهم أو مع بقية المواطنين، وهناك أمر هام يجب على جميع المسؤولين في حكومتنا أن يجعلوه نصب أعينهم، وألا وهو أنهم جميعا خدمٌ لشعب هذا الوطن العزيز، وعليهم أن يؤدوا هذه الخدمة بكل إخلاص وأن يتجردوا من جميع الأنانيات وأن تكون مصلحة الأمة قبل أي مصلحة شخصية، إذ أننا لن نقبل العذر ممن يتهاون في أداء واجبه المطلوب منه في خدمة هذا الوطن ومواطنيه، بل سينال جزاء تهاونه بالطريقة التي نراها مناسبة، فلقد وضعت قوانين لهذه الدولة بموجب مراسيم سلطانية صدرت بشأنها وتصدر من حين آخر، وذلك للمحافظة على مصالح هذا الشعب، فعليكم أن تدرسوا هذه القوانين كل في مجال اختصاصه دراسة وافية، وأن لا تتجاوزوا في المعاملات أي نص لتلك القوانين، بل يجب التقيد بها واتباع ما جاء في نصوصها، إن الوظيفة تكليف ومسؤولية قبل أن تكون نفوذا أو سلطة”.
*وحول السياسة الخارجية المتزنة نجد أن خطاب جلالته يحمل بين ثناياه مبادئ راسخة وثوابت قويمة تشيع بين أواسط الشعوب السلام والأمان والحياة الكريمة، ففي كلمته الافتتاحية للقمة السادسة عشرة لدول مجلس التعاون الخليجي 3-12-1995م يوجه خطابه للحضور الكريم بقوله: “ولقد أثبت الواقع أن انتهاج سياسة معتدلة في مضمار العلاقات الدولية والتعامل مع الآخرين بمصداقية تامة إنما هو سلوك سليم ونهج حكيم يؤتي ثمارا طيبة تتجلى في ترسيخ قواعد الأمن والاستقرار وتثبيت دعائم الإخاء والازدهار”
بقلم/ سلطان بن خميس الخروصي