عندما قال صاحب الجلالة السلطان قابوس، في خطابه لدى افتتاح الفترة الخامسة لمجلس عمان: “إننا نتطلع إلى نقلة نوعية للعمل الوطني”، فإنه بذلك كان يعطي إشارة البدء لمرحلة جديدة لإرساء دعائم دولة القانون والمؤسسات.والمتابع للمراسيم التي صدرت في العام 2011، يلاحظ أنها جاءت لتعطي الصلاحيات الواسعة لمجلس عمان بشقيه: “مجلس الدولة”، و”مجلس الشورى”، إضافة لتقوية جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة؛ باعتباره الجهة المناط بها مراقبة سلامة الأداء المالي والإداري في مختلف أجهزة الدولة.وقد تبع ذلك تفاعل وحراك وعمل وطني في مختلف المؤسسات؛ لتحقيق هذه الرؤية السامية الهادفة إلى التأسيس لمرحلة جديدة في مسيرة عمان الحضارة.
ولعل العنوان الأبرز للمرحلة الراهنة هو: “إعمال مبدأ الشفافية في جميع الممارسات المتعلقة بالصالح العام”. ولاشك أن المدخل الصحيح لتكريس هذا المبدأ؛ هو: تدعيم دولة المؤسسات التي يكون فيها البرلمان قادرًا على الرقابة على محاسبة السلطة التنفيذية، وفيها أيضًا تكون الكلمة الفصل للسلطة القضائية، ضمن مبدأ “الفصل بين السلطات”.
وهنا نستطيع الإشارة إلى ما تضمنه الخطاب السامي من المضي قدمًا في تطوير المؤسسات القضائية؛ لتكون قادرة على استحقاقات المرحلة. فمن المعروف أن دولة القانون تقوم أساسًا على نظام قضائي مستقل وقوانين واضحة ومنسجمة مع النظام الأساسي للدولة تكفل الحريات، وتعزز الشفافية، وأن استقلال القضاء ونزاهته من أساسيات دولة القانون؛ الهادفة إلى المساواة والعدالة بين المواطنين، وأحد الضمانات الأساسية لتدعيم التنمية وفيه يكمن صلاح المجتمع.
وفي هذا الصدد، ينبغي التنويه بالتوجه الذي برز مؤخرًا داخل مجلس الدولة، والذي تجسده الدعوة إلى إنشاء قضاء دستوري؛ ليكون مرجعًا للفصل في القضايا الدستورية.
إن النقلة النوعية التي تحدث عنها صاحب الجلالة؛ تعني الكثير من العمل والمسؤولية؛ ومن أهمها: العمل المؤسسي، والاستراتيجي المدروس، بعيدًا عن السياسات الفردية والاجتهادات الشخصية.
وعلى الصعيد المؤسساتي، شهدنا الكثير من الحراك في مجلس الدولة والشورى، واللذين توجها لمراجعة مختلف القوانين التي لم تعد مواكبة للنظام الأساسي للدولة. وليست هذه بالمسألة السهلة التي يمكن إعدادها بسرعة، بل تتطلب الكثير من الوقت، وتعكف اللجان المختصة على دراسة مجموعة من القوانين التي ينبغي تحديثها؛ ومن أهمها – على سبيل المثال: قانون التعليم، وقانون المطبوعات والنشر؛ وذلك للمزيد من الرقي بالعمل المؤسسي؛ ليكون محتكمًا إلى سياسات الدولة، واستراتيجياتها، وبما يكفل السير قدمًا من أجل بناء الوطن.
وفي هذا السياق، أصبح الإعلام شريكًا أساسيًّا في نقل الحقائق، وما يدور داخل أروقة صنع القرار السياسي، وما يصاحب ذلك من مناقشات وتفاصيل، التي تتمخض في النهاية عن قرارات تهم المواطن والوطن.
فثمة عمل مؤسسي حديث بدأ يتشكل، وثقافة جديدة علينا أن نجيد التعامل معها؛ لأن لها أصولًا، ومعايير، وأسسًا جديدة، وقوانين، وقواعد، وشروطًا جديدة؛ لترفع من الثقة بين الحكومة والشعب؛ وهي من أسس نجاح العملية التنموية.
وللمرة الأولى أصبحنا نسمع مصطلح “الصحفي البرلماني”، كما في الديمقراطيات الحديثة، وهو الصحفي الذي يعمل على تغطية ومتابعة كل ما يحدث في مجلس عمان. وهنا أود الإشارة إلى ضرورة أن يتسلح هذا الصحفي بالمعرفة الواسعة، والوعي بآليات العمل والأنظمة والقوانين لتكون متابعته دقيقة، ونقله لمجريات الحدث بتجرد وأمانة ووضوح، حتى تصل الصورة واضحة للرأي العام، كما يلزمه الكثير من الخبرات والتخصصية والالتزام والمسؤولية، بحسبان أنه أصبح شريكا في مسؤولية تمليك المعلومة للمجتمع.
ويدخل في إطار الشفافية أيضًا، ما نلاحظه من انتظام مجلس الوزراء بإصدار بيان رسمي شهري يوضح للرأي العام مجمل الخطط الحكومية التي تعمل الحكومة على تنفيذها، ويسلط الضوء على ما اتخذه من قرارت خلال هذا الشهر؛ ليكون المواطن على بينةٍ حيال نشاط المجلس والجهود التي يبذلها من أجله.
فالإفصاح يعني توضيح الصورة العامة للمواطن، وإجلاء الغموض والضبابية عن كل ما يتعلق بالعمل الوطني والشأن العام، والحرص على تدفق المعلومات من مصادرها الحقيقية، وقطع الطريق على الشائعات، وعلى من يروجون لها من ضعاف النفوس، من المثبطين والمحبطين في المجتمع.
فالشفافية تعني: الأمل، والموضوعية، والوضوح. وهي بذلك تجنبنا الإرباك الناجم عن التكتم ومحاولات الإخفاء، وتتيح لنا عدم تشويه الصورة الحقيقية للكثير من العمل الوطني المخلص والجاد.
وعلى المواطن أيضًا جانب يليه فيما يتعلق بإرساء قيم الشفافية، ويتمثل ذلك في متابعة والتفاعل الإيجابي مع القضايا العامة، وإبداء الرأي حولها من خلال الأقنية المتاحة، والبعد عن الأحكام الجزافية والاتهامات المجانية، وغير ذلك مما يسيء للوطن في المواقع الإلكترونية، وشبكات التواصل الاجتماعي من شائعات لا تمت للواقع بصلة، والتي تصور المجتمع، وكأنه قد أدمن السلب بشكل مازوشي ومرضي.
وأيضًا يحسب ضمن الشفافية ما أصبحنا نطالعه في الصحف اليومية من أخبار تتناول أنشطة جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة؛ مما يعني وضع أي مخالفة تحت أضواء الإعلام الكاشفة. وهذا يسهم في كشف وسرعة محاسبة المخالفين والعابثين بالمال العام؛ وذلك بالتنسيق مع الادعاء العام كونه ممثلًا للنظام العام، وتشكل هذه الأحكام بالتالي رادعًا لكل من تسول لهم أنفسهم انتهاج مثل هذا المسلك المخالف.
إن مبدأ المساءلة والمحاسبة من صميم المبادئ التي ترسخ الشفافية، وتجعلها واقعًا معاشًا في حياتنا، وعلى مختلف المستويات.
ومن حقوق المواطنين على الدولة، تمليكهم كل الحقائق بشفافية ووضوح، وهذا من أساسيات المجتمع الديمقراطي.
ومن الشفافية كذلك ما أصبحنا نطالعه في صحفنا من إعلانات الوظائف الشاغرة بشكل واضح ومصداقية، مع تبيان أسس المنافسة عليها، حتى يتضح للجميع أن الاختيار يتم على أساس الكفاءة والقدرة، بعيدًا عن المحسوبيات والواسطة. وحتى لا تذهب الفرص لمن لا يستحق؛ مما يشيع الأحقاد في المجتمع، وينسف ثقة الناس في عدالة المنظومة الإدارية للدولة.
ومن هنا، نجد أن الكثير من أبعاد الشفافية تتحقق في مختلف المجالات والمستويات، بعيدًا عن التعتيم وآثاره السلبية على المجتمع؛ فالشفافية ليست شعارًا فحسب، بل ممارسة نعيشها في حياتنا اليومية.
إذن.. ترتكز هذه المرحلة النوعية الجديدة للعمل الوطني في جانبها الأعم على تعميق مبدأ الشفافية وتكريسه، وفيها يلعب الإعلام دورًا محوريًا؛ حيث إن الكلمة الحرة تسلط الضوء على الكثير من الممارسات غير السليمة؛ فتسهم في تصويب الأوضاع، كما أن الإعلام يتابع نشر المعلومات والبيانات الحكومية وغير الحكومية؛ كأرباح الشركات المساهمة العامة، ومتابعة تفاصيلها بما يحفظ حقوق المساهمين. ويلعب كذلك دورًا فاعلًا في مكافحة مختلف أشكال التعتيم والسرية؛ مما يدعم جهود اجتثاث الفساد، وأيضا تشخيص الظواهر الاجتماعية السلبية بتجرد ووضوح؛ مما يساعد على وضع المعالجات لها، بعيدًا عن تصوير المجتمع خاليًا من العيوب، وكأنه المدينة الفاضلة.
هذا الدور الجوهري للإعلام في إرساء الشفافية، ينبغي أن يسند بإيجاد بيئة مشجعة للحريات الصحفية والمدنية، وسيادة القانون في بيئة سليمة، يُعامل الجميع فيها بمعايير واحدة.
ومن الناحية الأخرى، يتطلب الأمر من الصحفيين وجميع الإعلاميين القيام بدورهم بكل مسؤولية ووعي خلال المرحلة الجديدة، ويتأتى هذا بالكثير من القراءة والتطوير الذاتي، والدورات المكثفة؛ ليكونوا في أتم الجاهزية المهنية والأخلاقية للقيام بدورهم كاملًا، مستشعرين عظم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، بحسبانهم يمثلون “سدنة الديمقراطية” و”حراس الحقيقية”، وهذا يفرض عليهم التزاما آخر بالتعامل مع الوقائع دون تهوين أو تهويل، ووفق منهج واقعي بعيدًا عن الشطط والإثارة والمبالغات. فالكلمة أمانة ومسؤولية، والوطن أمانة في عنق كل مواطن حر وشريف.
ومن هنا تأتي أهمية تعزيز دور القيم الإيجابية في حياتنا لبناء المجتمع الداعم للشفافية، والبعيد عن الأساليب غير الديمقراطية. ومن أهم هذه القيم الصدق؛ ليس فقط على مستوى المسؤولين، ولكن على مختلف المستويات والتراتيب المجتمعية؛ فالصدق مطلوب في المدرسة، والأسرة، والنادي، والشارع، والمؤسسة.. وفي جميع مكونات المجتمع. وعندما يكون المرء صادقًا، فإنه يمثل لبنة في صرح الشفافية في إطاره الشامل وهو المجتمع، وهو يجتهد من أجل العطاء في مجاله بدافع ذاتي.
والقيم الإيجابية منظومة واحدة، تكمل بعضها البعض؛ كالعقد الذي ينبغي أن يتحلى به عنق كل مواطن.
إذن.. مرحلة النقلة النوعية التي بشر بها جلالة السلطان، تتطلب الكثير من العمل التربوي المستنير لزرع الشفافية في نفوس المواطن والمجتمع لتصبح أسلوبَ حياة.