‘البرلمان المفتوح’ خصوصية عُمانية في الأداء الديمقراطي
السلطان قابوس يترجم موروث ‘السبلة’ في صيغة متطورة عبر جولاته السنوية الطويلة في مختلف الولايات.
“كان يجوب المناطق بانتظام الواحدة تلو الأخرى، ويتلقى أثناء لقاءاته مع أبناء الشعب عدداً هائلاً من الطلبات والمقترحات، فيصوغ بناء على ذلك كله مهمات واضحة للوزارات والسلطات المحلية. وتتكرر الرحلات والجولات، ويتأكد السلطان شخصياً من تحقق ما وجه إليه.
وبهذه الصورة لم يستطع الموظفون أن يتحولوا إلى فئة عازلة أو حجاب حاجز بين السلطان والمواطنين، ذلك أنهم أصبحوا خاضعين للمراقبة والمتابعة سواء من السلطان شخصياً أومن أجهزة الدولة”. (من كتاب مصلح على العرش، لمؤلفه الروسي سرجي بليخانوف)
بدأ السلطان قابوس جولته السنوية في مطلع الأسبوع الماضي في مناطق وولايات عمان انطلاقاً من بيت البركة الى منطقة الباطنة التي يستهل بها جولته هذا العام.
يقوم السلطان برفقة عدد من الوزراء بالاستماع الى المواطنين وتفقد أحوالهم، ويلبي احتياجاتهم ويطلع على منجزات النهضة الحديثة في بلاده، كما يتابع تنفيذ الخطط الطموحة التي تهدف الى رخاء ورفاهية الانسان العماني.
العمانيون يستمدون ديمقراطيتهم من مبدأ الشورى في الاسلام، والذي كان متمثلاً فيما يسمونه “السبلة” باللهجة العمانية، وهي التي تشير الى المركز الذي يجتمع فيه أبناء القرية أو الحي لمناقشة كافة أمورهم الحياتية على اختلافها وتنوعها، حتى أن جولات السلطان قابوس السنوية الميدانية في مختلف المناطق والولايات يمكن اعتبارها ترجمة صحيحة وبلورة فعلية في صيغة متطورة لموروث شعبي أصيل.
في الوقت الذي شكل فيه مبدأ المشاركة بين المواطنين والحكومة مبدأ أصيلا من مبادئ النهج السياسي العماني منذ انطلاق مسيرة النهضة، فإن تقدير السلطان قابوس للمواطن العماني ولأهمية مساهمته في عملية التنمية والتعرف على آرائه ومقترحاته لم تتوقف عند أساليب المشاركة المختلفة بما فيها العمل من خلال مجلس الشورى العماني، شريك الحكومة في ادارة وتوجيه عملية التنمية، ولكنه امتد الى اسلوب عماني في الاداء الديمقراطي وذلك من خلال الجولات السنوية التي يقوم بها السلطان بين ولايات ومناطق السلطنة المختلفة.
فهذه الجولات السنوية التي تجمع بين القائد والمواطنين بعفوية وتلقائية وفي مناطق اقامة المواطنين ومعيشتهم في الوديان والجبال والصحاري والسيوح وغيرها تقدم في الواقع صيغة توسع من دائرة الحوار المباشر ليشمل أكبر عدد ممكن من المواطنين وفي الولايات والمناطق المختلفة في السلطنة بما فيها المناطق النائية، ومن ثم فإنها تسهم بشكل حيوي في عملية التنمية السياسية وفي اعطاء القدوة لكل القيادات وعلى مختلف المستويات، فضلاً عن انه يتم طرح العديد من الموضوعات والقضايا الاقتصادية والاجتماعية وغيرها مما يهم المواطن في حياته وفي يومه وغده.
كما تسهم في الحفاظ على تقاليد المجتمع وزيادة التماسك والترابط بين أبنائه ومواجهة أية آثار جانبية لعملية التنمية والتحديث، فخلال الجولات السنوية يطلق المواطنون العنان لأنفسهم للتعبير عما يكنونه من حب وولاء وتقدير لقائدهم وعادة ما يتخذ ذلك العديد من الصور والأساليب خاصة وأن الجميع يحرص على التشرف بالذهاب الى المخيم وكذلك بتوقيف سيارته لاعطائه رسالة أو سؤاله حول أمر ما وكثيرا ما يتوقف السلطان ليتبادل الحديث مع شيخ مسن أو امرأة أو طفل أو أحد الشباب مما يحقق التواصل الدائم والعميق بين القائد والمواطن بكل ما يترتب على ذلك من ايجابيات تعود بالنفع على الوطن والمواطن في النهاية.
في الوقت الذي تمثل فيه الجولات السنوية التي يقوم بها السلطان نهجا خاصا ومتميزا أسسه ويحرص عليه السلطان منذ بداية مسيرة النهضة العمانية الحديثة، فإن هذه الجولات التي اصبحت بفعل استمرارها ودوريتها وإمتدادها الى كل محافظات ومناطق وولايات السلطنة، سمة فريدة من سمات المشهد السياسي العماني، وسبيلا فعالاً من سبل المشاركة من جانب المواطن العماني، وصيغة للتفاعل الدائم والمتواصل بين القيادة والمواطنين على امتداد هذه الأرض، فإنها تشكل في الواقع اضافة متجددة وبالغة الأهمية على الصعيد الوطني وذلك بفعل التأثير الكبير لها، والآثار العديدة المترتبة عليها إقتصادياً وتنمويا واجتماعياً وسياسياً أيضاً.
وفي حين ترتبط اهمية الجولات السنوية على نحو واضح ومباشر بالقيادة فإنها ترتبط كذلك بما يطرحه السلطان خلالها من آراء وما يتخذه من قرارات وما يوجه الى العناية به في هذا المجال أو ذاك، فإنه من الطبيعي أن تجد توجهات قابوس طريقها الفوري والمباشر الى عقول وقلوب كل أبناء الوطن وعلى جميع المستويات.
والجولات السنوية التي تستمر لعدة أسابيع وفي بعض الأحيان بضعة اشهر، تتنوع في طبيعتها ومن ثم في الفعاليات المصاحبة لها، وان كانت تتفق جميعها في انها في جوهرها بمثابة تفاعل متجدد يثري التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بكل ابعادها ومستوياتها.
ومع مراعاة ما تتسم به جولات السلطان من بساطة وتلقائية ومباشرة في التعامل بينه وبين المواطنين، فإن البعد التنموي لهذه الجولات يتجسد على نحو واضح سواء من خلال الندوات الوطنية، ومنها ندوة القوى العاملة الوطنية، وكذلك ندوة التنمية المستدامة للقطاع الزراعي، وتنظيم سوق العمل به التي عقدت في فبراير/شباط 2007 أو في المشروعات التي يأمر بتنفيذها خلال الجولة والتي ترتبط باحتياجات فعلية ومباشرة في هذه الولاية أو تلك، أو استكمال مشروعات حيوية في منطقة أوأخرى، وذلك في ضوء ما تسفر عنه عمليات تفقد هذه الولايات وما يلمسه من احتياجات المواطنين فيها.
ولعل ما يعطي هذا الجانب أهمية كبيرة ويتطلع إليها المواطنين في الولايات أيضاً أن المشروعات التنموية والخدمية التي يأمر بتنفيذها خلال الجولات تكون في العادة خارج إطار الموازنة العامة للدولة ومن ثم فإنها تكون مشروعات اضافية يتم تمويلها من موارد أخرى، وبالتالي فإنها تعزز أو تضيف الى ما هو مقرر من مشروعات تتضمنها الموازنة تم أو يتم تنفيذها.
وما يزيد من أهمية هذه المشروعات أيضاً أنها ليست مشروعات محدودة. ومما له دلالة في هذا المجال وعلى سبيل المثال ان خطة التنمية الخمسية السابعة (2006-2010) الجاري تنفيذها والتي يمثل عام 2008 العام الثالث منها، شهدت خلال الفترة الممتدة من أول 2006 حتى نوفمبر/تشرين الأول 2007 إضافة مشروعات تنموية وخدمية بقيمة 2357 مليون ريال عماني، أي بزيادة نسبتها 78% من اجمالي الاعتمادات الأصلية المخصصة لذلك في خطة التنمية الخمسية السابعة والتي بلغت 3016 مليون ريال عماني، وبالتالي ارتفعت هذه المخصصات لتصبح 5373 مليون ريال عماني، وهي زيادة ضخمة في تمويل المشروعات التنموية، خاصة وأنها اي هذه الزيادة حدثت خلال أقل من عامين وكثمرة من ثمار الجولات السنوية للسلطن قابوس في الولايات.
وقد شملت هذه المشروعات على سبيل المثال مشروعات طرق ومواني وفي قطاع الغاز والمطارات وتخطيط المدن والكهرباء والصحة والتعليم وغيرها. ومن ثم أصبحت الجولات السنوية مصدرا حيويا لزيادة الاعتمادات التمويلية ولاضافة مشروعات تنموية يحتاجها المواطنون ويقرها السلطان خلال هذه الجولات.
وفي ضوء ذلك وغيره فإن جولات السلطان تمثل اضافات دائمة ومتجددة تنمويا وسياسيا واجتماعيا أيضاً خاصة وأن السلطان بما يتمتع به من حب وولاء لدى المواطنين، يستطيع بكلماته وتوجيهاته التأثير الشديد والواسع النطاق في سلوك المواطنين وفي رؤيتهم ووجهات نظرهم وبالتالي في الرأي العام على نطاق واسع وبالنسبة للعديد من الموضوعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وحتى بعض التقاليد التي استقرت على مدى عقود طويلة أمكن تعديلها الى ما هو أفضل للوطن والمواطن، وهناك العديد من الأمثلة في هذا المجال على امتداد السنوات الماضية، وبالنسبة لموضوعات تمس حياة المواطنين بشكل مباشر.
إلى جوار الصورة الرائعة للشورى المباشرة في الجولات التي اصطلح على تسميتها تلقائيا “برلمان عمان المفتوح” الذي يجتمع كل عام ويتواصل من موقع الى آخر على ارض السلطنة، حرصت القيادة السياسية على إبداع أطر مؤسسية لممارسة الشورى بدأت كنقلات مرحلية في مسيرة الشورى، وتبرز متابعتها واستيعاب مراحل تطورها وتحدد الخصائص العامة لعملية المشاركة وممارسة الشورى في الدولة العمانية الحديثة.
تعد هذه الجولات السنوية التي تتوزع بالتناوب كل عام بين مختلف المناطق والمحافظات منهجا عمانيا مميزا للشورى ونمطا فريدا للحكم يؤكد اللحمة الوطنية الراسخة بين السلطان وأبناء الشعب العماني، وتتخللها جلسات حوار مفتوحة مباشرة بين القيادة ومسؤولي الأجهزة التنفيذية والمواطنين، تناقش خلالها بصورة عفوية وتلقائية القضايا التي تهم المواطنين بوجه عام.
ويتلمس قابوس عن كثب أحوال الشعب ومصالحه، ويستمع الى طموحات وتطلعات أبناء عمان، ويتفقد على الارض إنجازات وتحديات مسيرة التنمية الشاملة في شتى ربوع الوطن، ويسدي توجيهاته الى مسؤولي الحكومة والمواطنين ليهتدوا بها وهم يؤدون أدوارهم في خدمة وطنهم.
وفي رحاب هذه الجولات السلطانية بدأت مسيرة الشورى العمانية، ونمت وازدهرت قنوات تنظيم عملية مشاركة المواطنين في الشؤون العامة، وتأصلت سياسة إعدادهم وتأهيلهم لهذه المشاركة كسياسة ثابتة ضمن أولويات العمل الوطني.
ويعبر السلطان عن طبيعة هذه الجولات وفلسفتها وقيمتها ومقاصدها النبيلة قائلاً “أعترف بأني أتمتع بهذه الرحلات الداخلية التي أقوم فيها بطول البلاد وعرضها. في هذه الرحلات التقي بالناس مواجهة وأستمع الى مطالبهم وهم يسمعون وجهات نظري. اني أشعر بالألفة هنا وهم كذلك. إن تفقد أحوال الرعية شأن موجود في تاريخ الاسلام، ويعد من واجبات القائد. هناك مواطنون قد لا تسمح لهم ظروفهم بأن يطرقوا أبوابا معينة فآتي أنا إليهم بشكل مباشر. إني مرتاح وأجد متعة نفسية بهذه الرحلات الداخلية وأجتمع فيها بأهلي وأختلط بأنفس كثيرة اسمع منها وتسمع مني ونعطي جميعا الثمار المطلوبة. إني أتمتع وأنا أرى أهلي يستمعون الى توجيهات ولي الأمر ويعملون بها من هنا تخلق ثقافة الضبط والربط التي هي سر تفاعل الرعية براعيها. هذا التفاعل الذي يخلق بدوره الولاء المتبادل بين الطرفين”.
وعلى هدى ما تقدم فإن هذه الجولات في تتابعها واستمرارها وتراكم خبراتها وتجددها تكشف عن مجموعة من المقومات والعناصر الجوهرية لهذا الأسلوب المباشر للعمل الديمقراطي والشورى العمانية يمكن اجمالها في مقومات أساسية :
أولها: انتقال نظام الحكم بأغلب أجهزته وأعلى سلطاته الى المواطنين في مناطقهم وديارهم.
ثانيها: اللقاء المباشر العفوي مع الشعب واستقراره سمة أساسية في تنظيم العلاقة بين المواطن العماني وقيادته.
ثالثها: طرح القضايا التنموية والسياسات العامة للدولة على بساط البحث، وتحول هذه اللقاءات المباشرة الى استفتاءات على هذه القضايا وأولويات العمل الوطني.
رابعها: تلمس احتياجات المواطنين على أرض الواقع، وتحقيق المزيد من المشروعات التنموية بصورة عاجلة بمقتضى أوامر سامية للسلطان بإقامة مشاريع جديدة خارج نطاق خطط وبرامج التنمية المعتمدة وفي مجالات حيوية من طرق وكهرباء وإسكان وصحة وتعليم للتيسير على هؤلاء المواطنين والوفاء باحتياجاتهم وتلبيتها تأكيدا على أن غاية الحكم هي إسعاد المواطنين أينما كانوا.
خامسها: التجوال اليومي والالتقاء بالمواطنين من قبل الوزراء وتفقدهم المشاريع التنموية ومستويات الخدمات المقدمة في هذه المناطق.
سادسها: التلاحم الوطني بين القائد والمواطن وإرساء مقومات التماسك الاجتماعي وترسيخ الوحدة الوطنية.
يتضح أن مضمون هذه المقومات الجوهرية يتناغم مع ملاحظة الكاتب الروسي بليخانوف:
“يسترشد السلطان بمشورة الرعية، وهو يشعر فعلاً بحاجة ماسة الى نصائح المواطنين العارفين. فالعديد من قراراته ومراسيمه تظهر الى الوجود عادة بعد لقائه في البرلمان الشعبي أو برلمان عمان المفتوح أثناء الجولات السلطانية”.
==========
ميدل ايست اونلاين
بقلم : د. حسين شحادة