قبل أيام فقط اختتم جلالة السلطان قابوس بن سعيد سلطان عُمان زيارته الرّسميّة للبحرين. وقد اختَرتُ أن أكتبَ عن “شخص جلالته وزيارته الميمونة” بعد انقضائها لكي لا تضيع هذه الكلمات ومضامينها وسَطَ ارتدادات “لحظة” الزّيارة ووهجها.
ففي كلّ مرة أكتبُ عن السلطنة، لا أجدني حُرَّاً في الفصل ما بين هذا البلد العزيز وبين سيّده وحاكِمه. فالأصل أن الدول هي الوعاء الأعم للأشياء، لكن ذلك الأصل قد يتحوّل نقيضه (أو مُزَاحِمُه) إلى استثناء فتُصبح الزعامات السياسية رديفة لذلك “الأَعَم” وهو حال جلالة السلطان قابوس بن سعيد.
فيما خصَّ شخص جلالة سلطان عُمان (والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بموضوع الزيارة)، فإنني لازلت أتذكّر بداية القَدَّاحةِ التي وصلتني به. كان ذلك بالتحديد حينما كنتُ أستمع إلى جلته في التلفاز وهو يتحدّث في محضر طلاب جامعيين بمسقط.
كان حديثه جِدُّ مختلف. فقوله مُرتَجَلٌ لكنه مسبوكٌ بشكل لافت، ووليد لحظة قوله. مُتناسب مع المقام. غير خارجٍ عن معنى المناسبة وسياقها. قبل ذلك لم أكُن أديرُ بالاً لأحاديث الزعامات السياسية. لكن ما سمعته من جلالة السُلطان بدا لي مختلفٌ حقاً.
شدّني ذلك لأن أقرأ التجربة العُمانية انطلاقاً من عُمر الرجل في الحُكم وما قبله أيضاً. وبعد البحث وجَدْتُ أن لِعُمان عالَمَيْن. عالَمٌ كانت تعيشه قبل الثالث والعشرين من يوليو 1970 وهو تاريخ تولّي السلطان قابوس بن سعيد العرش، وعالَمٌ قبله حين كان البلد يغطّ في مشاكل جمّة لا تنتهي.
بعد مجيء السلطان إلى الحكم بداية السبيعنيات كانت عُمان تحتاج إلى كلّ شيء يتخيّله المرء لكي تتحوّل إلى بلَدٍ بمستوى “دولة”. كانت تحتاج إلى الحَجَر والبشَر. للسياسة والقوّة. للاقتصاد والثقافة. كانت تحتاج إلى وصْلٍ بين ماضٍ عريق، بحاضر يتثاقل في قيامه.
كانت البلد تحتاج إلى عملٍ سياسي واقتصادي واجتماعي شاق ومُضْنِي. في البداية كان تحدّي النّزاع المرير في ظفار، حيث الجماعات اليسارية الثورية والقبلية المسلّحة والمُعقّدة في آن، والتي كانت تُشكّل تهديداً حقيقياً لاستقرار البلد.
ثم جاءت مهمّة البناء البيرقواطي للدولة. وزارات سيادية وخدميّة ومؤسسات مجتمعية، ومهمّة ترويض الرَّافِلِيْن في “اللاقانون” طيلة السّنين المنصرمة. ثم جاء دور قيام “الدولة” القائمة على محورَيّ الانتماء السياسي، واستقرار الحدود، وأيضاً العلاقة مع الجوار والعالَم.
لم تكُن هذه المتطلبات سهلة المنال. بل إن بعضهم قال بأن دونها خرط القتاد. فكثيرة هي الزعامات التي حَكَمَت على بناءٍ مُهيَّأ. فقد سبقها حُكمٌ (عادلٌ أم فاجر) ساهَم بوضع حَجَر على حَجَر.
وبالتالي فإن البناء على البناء يمنحك اختصاراً في الوقت والمال والجهد. أما إذا كنتَ تبني على أرضٍ بُوْر، فإن المهمّة تصبح أثقل، وأكلافها تتعاظم، وظروفها تبدو أصعب. وهو حال عُمان والعُمانيين بعد الثالث والعشرين من يوليو.
لقد انحسرت هجرة العُمانيين إلى الخارج، بل إن مَنْ كان منهم خارج البلاد، كرَّ راجعاً لانتفاء سبب هجرته. وأصبح العالَم يُفاضل بين حالَيْن لا يصلهما ببعضٍ سوى أنهما كانا على أرض واحدة. فإذا ما وُجِدَ في عُمان اليوم تقدّم فهو ممدوح، وخلافه لا يخرج عن سليقة البناء الحديثة في بلدٍ كان لا يلوي على شيء.
هذا فيما خصّ الداخل العُماني ونهضته. أما في شأن الزّيارة الميمونة لجلالة السلطان لبلده الثاني مملكة البحرين، فلا أجد ما يفصل بينها وبين السّياسة العُمانية الخارجية منذ النهضة. علاقات جوار إقليمية ودوليّة هادئة. سحبٌ لبؤر التوتّر، ضمن نظرية “لا استعراض في السياسة، ولا التزام أكثر من المُتاح” والتي تنتهجها عُمان مع دول العالَم.
ضمن هذا السياق وهذا التوجّه السياسي تُصبح مثل هذه الدول (عُمان) كـ “بيضة قبّان” في حلّ العديد من مشاكل الأفرقاء التي يعِجّ بها الإقليم أو جواره. بل ويقصدها عديد من الزعامات لقولِ أو فِعْلِ ما يتوجّب فعله في السياسة، وفضّ نزاع على مصالح أو حدود أو نفوذ.
وباستحضار المصالح المتبادلة بين البحرين وعُمان تُلحَظُ الاستراتيجيات. فعُمان جار مزدوج في حدوده بالنسبة للخليج. فهي أحد مُكوّناته، إلاّ أنها أيضاً الزّاوية الشرقية الجنوبية لشبه الجزيرة العربية، والرافِعة الأمضى عبر نظرية الارتكاز العمودي لحوض الإقليم.
وهي بذلك تُمثّل واجهة الخليج نحو بحر العرب والمحيط الهندي. وسواحلها قادرة على تسيير السفن والبواخر حتى باب المندب حيث البحر الأحمر، ونحو رأس الرجاء الصالح حيث الالتفاف على السواحل الأفريقية وصولاً إلى الأطلسي. أو شرقاً صوب شبه القارة الهندية وجنوب شرق القارة العجوز.
ولأن البحرين ذات عُمق جمركي مُنظّم منذ العام 1860م فإن مصالحها تلتقي مباشرة مع مصالح العُمانيين، الذين يضطلعون عبر مياههم الإقليمية بمضيق هرمز من كُوَّة رأس مسندم. وإذا ما أختُطّ مسار بحري بين مسندم وبين عنق البحرين المائي فإنه يُصبح قادراً على الانعطاف شرقاً لتغذية المناطق الشرقية للمملكة العربية السعودية، أو مواصلة الخط باتّجاه الكويت والعراق مُجتمِعَيْن، أو تحريك التجارة مع الضفّة الشرقية للخليج حيث إيران.
بطبيعة الحال فإن هذه الخاصّيّة ليست مصلحة ثنائية تخصّ البحرين وعُمان فقط، بل هي إحدى أهم منظومة المصالح التي تتعاضد بين دول الخليج مُجتمِعَة. وقد لا تتّضح هذه الصّورة كما يجب بسبب ضعف خطوط المواصلات بين أراضيها (سكّة حديد/ شوارع سريعة باتجاه حدود مباشرة) إلاّ أنها كذلك حين تتشابك الحدود بخطوط مواصلات نَشِطَة، أو حين يتضرّر مضيق هرمز نتيجة عمل عسكري.
وقد يقفز للذّهن أيضاً مسار التقابل بين “نابوكو الخليج” إن جازَ لنا التعبير في قِبَالة خطّ الـ ساوث ستريم (مجازاً) والذي يَصِلُ نفط الخليج (الذي يُشكّل 40 بالمائة من طاقة العالَم) عبر مضيق هزمز إلى المياه الدولية ومنها إلى دول العالَم المُستهلِكة في الغرب والشّرق الأدنى.
فإذا ما وُجِدَ التوافق اللازم بين الخليجيين أصبح بمقدورهم الإطلالة على البحر من خلال اليابسة العُمانية باتّجاه الجنوب وولوجهم لاحقاً صوب الطرق البحرية الدّولية الرّحبة، سواء عبر أنابيب الطاقة أو الشحن البري.
في المُحصّلة، فإن هذه القيم وفق البُنيَة الصلبة (الجغرافيا) في العلاقات السياسية والاقتصادية بين مملكة البحرين وبين سلطنة عُمان تبدو ظاهِرة. بل إن العلاقات المتحرّكة خارج الخليج للقوى الكبرى، وبين التوازنات الداخلية لمنطقة الخليج تُشكّل أحد أهم عوامل تعزيز العلاقات الثنائية (والجماعية) لدول الإقليم.
وللعلم فإن منطق الأشياء اليوم يشير إلى أن المستقبل هو حليف التكتّلات الكبرى والفاعلة كالـ جي 20، والـ جي 8، والـ BRIC، والمركوسوري، وشنغهاي وغيرها من التكتلات الكبرى، وبالتالي فإن الاعتناء بوحدة دول هذا الإقليم وتعزيز روابطها تصبح أكثر من ضرورية.