وَصَلَت طائرة عُمانيّة خاصّة إلى مطار مهرآباد بطهران. الطائرة مُهِرَ على مُقدّمتها كلمة «مَصَيَرة» وهو اسم جزيرة ساحِرة تقع في الجنوب الشرقي لعُمان يُكاتفها عدد من الجزر الأخرى. وللعلم فإن «مَصَيَرة» التي تدلّ آثارها على عمرها السحيق الممتد لثلاثة آلاف سنة كانت أحد مراسي السّفن الهامّة، ومَوئِلاً مهماً للمياه العذبة، حتى سَالَ لعاب الإسكندر المقدوني عليها فاتخذها قاعدة له عندما كانت امبراطوريته تتمدّد إلى حيث هناك.
على أيّة حال، وصلت الطائرة العُمانية، وكان في انتظار مَنْ فيها بقاعة التشريفات بالمطار عدد من المسئولين الإيرانيين يصطحبون معهم فتاة أميركية اسمها سارة شورد (31 عاماً). وبعد بُرْهَةٍ من الزّمن أقلعت الطائرة الخاصّة من العاصمة طهران نحو العاصمة مسقط وهي تُقِلُّ معها المواطنة الأميركية، التي كان القضاء الإيراني قد اتّهمها بالتجسس بعد دخولها الأراضي الإيرانية عبر الحدود الشمالية للعراق وبمعيّتها اثنان من الأميركيين.
لا أودّ أن أدخل في تفاصيل أكثر بشأن الموضوع، وما إذا كانت السّلطنة قد دفعت كفالة شورد أم لا (500 ألف دولار) أو حتى عن وصف الوساطة التي تمّت، إلاّ أنني أرغب أن أَلِجَ الموضوع من حيث قيمته الحقيقية وليس العَرَضِيَّة. فسلطنة عُمان تأخذ دورها الإقليمي والعالمي من حيث أداء حُكمها السياسي الرّشيد تحت قيادة جلالة السلطان قابوس بن سعيد الذي مَوضَعَ عُمان على حَدِّ المركز الأول عربياً من حيث الشفافيّة ومكافحة الفساد.
في عالَمٍ مليء بالصراعات والاصطفافات والعِداء والخصام، يُصبح وضع القَدَم إلى أيّ منها أمراً بالغ الصعوبة. فهناك عدوُّ صديق يستلزم موقفاً منه. وهناك صديق عدوّ، وهناك عدوّ عدو يُمكن تثمير قوّته في المعركة. وهناك صديقُ صديق يُمكن الاستفادة منه في حِلف. وهكذا تتوالَى الصداقات والعداوات لتقيم نظاماً مُربِكاً في العلاقات الدولية، ودُفُوعاً تُنتُج أزمة في حين، وصُلحاً في حين آخر. وبين الأولى والثانية يضيع جزء من رصيد الدول في المكابدة.
في الحالة العُمانية. وفي أُتُونِ تلك المعادلة الصعبة، تغلُب الحكمة على التهوّر، والعقل على الجنون. وربما شاء العُمانيون أن يتصرّفوا وفق نظرية الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل القائمة على أن «ما يُمَيِّز عامة الناس عن خاصتهم هي عدم قدرة العامة على التصرف وفقاً لمعتقداتهم». فعندما تلتزم بمسار المجموع وتتورّط في خطّ سَيْرِهِم ومصالحهم المباشرة، فإنك تدفع الضريبة معهم ومن خلالهم، وعلى حساب لحمك الحي.
ولكن وعندما تلتزم مسارك الخاص فإنك تعمل وفقاً لاستحقاقه، دون أن تُفرّط في صداقات إقليمية أو دوليّة. فالحقيقة تقول: إن المجموع يُمكن أن يكون حليفاً من دون حتميّة التماهي معه. يكفي أن ترسم معه حدوداً تُحاذيه ولا تصطدم به لكي يكون صديقاً جيداً. بمعنى أن الأمر هو بين حَدَّي «لا يتعارض» و «يتطابق» في المصالح السياسية، أو ما بين الكفاف والكفاية. هذه سياسة أكثر من ذكيّة تختطّها سلطنة عُمان في سياساتها الخارجية مع الدول منذ أمد.
من يُراقب السياسة العُمانية يفهم أن حصافتها قد مَنَحَتها معادلة نادرة التّحقق: صداقة مع الجميع وعداوة مفقودة. أي تصفير المشاكل. لك أن تتخيّل أن دولة عُظمى كالولايات المتحدة الأميركية تهتدي (وعن عِلم) بأن سلطنة عُمان يُمكنها أن تُسوِّي مُشكلة ما مع الإيرانيين، سواء إن كان الأمر متعلقاً بإطلاق سراح مواطنة أميركية، أو حلحلة ما في ملفها النووي. أيّ أن مسقط أصبحت منطقة جذب للحُلُول السياسية الإيجابية في زمن باتت الحاجة فيه إلى ذلك أكثر من مُلِحَّة.